منتــــدى أبنـــاء السلــــــــف
منتــــدى أبنـــاء السلــــــــف
منتــــدى أبنـــاء السلــــــــف
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتــــدى أبنـــاء السلــــــــف


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصوردخولالتسجيل
طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- G5g5-7f7110b59c طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- G5g5-4d203bdcc7 طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- G5g5-7f7110b59c طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- G5g5-4d203bdcc7

 

 طوق الحمامة - بين النظرية والتطبيق -5-

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الفارس
إداري
إداري
الفارس


ذكر عدد الرسائل : 1160
السٌّمعَة : 13
نقاط : 2574
تاريخ التسجيل : 08/02/2009

طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- Empty
مُساهمةموضوع: طوق الحمامة - بين النظرية والتطبيق -5-   طوق الحمامة -  بين النظرية والتطبيق -5- Emptyالجمعة يناير 15, 2010 9:04 am

بين النظرية والتطبيق:
لم يقبل ابن حزم بالرأي الذي أورده ابن داود وهو أن الأرواح أكر مقسومة في العالم العلوي، وأن كل قسم يحن إلى نظيره؛ بل عدل فيها
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) الزهرة: 19 - 20.

(1/58)


--------------------------------------------------------------------------------

ليقول إن النفوس تنقسم في هذه الخليقة (لا في عالم علوي) وأنها ليست أكراً (ولكنه لم يحدد لها شكلاً) وأن عنصرها رفيع، فالحب اتصال بين تلك الأجزاء، على أساس من المجانسة والمشاكلة (وهو ما لا ينفك ابن داود من تكريره في كتابه وذلك ما قال به المتكلمون في مجلس يحيى ابن خالد) وذلك سهل على نفس تنزع إلى نفس لان عالمها صاف خفيف وجوهرها صعاد معتدل، فالحب إذن تقارب بين النفوس وليس منشؤه استحسان الصورة الجسدية إذ لو كان الأمر كذلك لما استحسن محب صورة جسدية ناقصة، ولو كان الأمر لتوافق في الأخلاق لما أحب المرء من يخالفه.
وقد كانت هذه البداية مصدر اضطراب لدى ابن حزم لا ندري سببه، ولعله اضطراب في النسخة التي وصلتنا (1) ، فبعد أن أكد أن انقسام النفوس يتم في هذه الخليقة عاد يقول إن قوله المسطر في صدر الرسالة هو " إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي " . وبعد أن قرر أن الاتصال يتم بين أجزاء النفوس المتشاكلة، وأنه ليس استحساناً جسدياً ولو كان كذلك لما أحب امرؤ صورة ناقصة، عاد يخبرنا ان الحب يقع في الأكثر على الصورة الحسنة، لأن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فإذا وجدت وراء الصورة (الجسدية) الحسنة مشاكلة اتصلت وصحت المحبة، فان لم تميز شيئاً توقفت عند حب الصورة؛ وهذا يعني أن الحب يبدأ باستحسان الصورة الجسدية الحسنة، وأن محبة الصور الناقصة أمر نادر.
هذا هو شأن الحب الذي يسمى العشق، فهو امتزاج نفساني، فان قيل لماذا يحب المرء محبوباً ثم لا يبادله المحبوب ذلك فالجواب عند ابن حزم ان النفس المحبوب في هذه الحالة تكون قد أصبحت أسيرة الأغراض الكثيفة والطبائع الأرضية، مغمورة بالحجب، فهي " ساكنة " في ظلمة
__________
(1) قوله: " لا على ما حكاه ابن داود " فلو حذفنا " لا " لزال بعض ذلك الاضطراب.

(1/59)


--------------------------------------------------------------------------------

(متقبلة لا مهاجمة) ولهذا لا تستثار إلا بعد محاولات من ايصال المعرفة إليها وتنبيهها من غفلتها لتستطيع التجاوب مع روح المحب التي تكون متخلصة غير مأسورة، طالبة لنظيرها " متحركة " (مهاجمة لا متقبلة) جاذبة مشتهية لتمام التلاقي. ومثل هذا الفهم يؤكد لابن حزم أن الحب " عملية " تتطلب زمناً متطاولاً، وتكراراً في ايقاظ نفس الصنو، فأما ما يتم بسرعة من جراء الاستحسان الجسدي، أو ما يسمى الحب من النظرة الأولى فذلك هو " الشهوة " ، ولهذا التجاذب بين الصنوين لا يصح ان يحب المرء اثنين في آن معاً. ولكن " الشهوة " نفسها قد تتحول إلى حب، إذا زادت عن حد الرضى الجسدي، واجتمعت تلك الزيادة مع اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس.
إذن فنحن ازاء نظريتين في الحب، لا نظرية واحدة، وقد لفهما ابن حزم لفاً سريعاً، وكأنهما ظاهرة واحدة وكأن احداهما تكمل الأخرى. والواقع أن هنالك حباً بين نفسين، وهو حب علوي، لا مدخل فيه للاستحسان الجسدي، وهنالك حب يبدأ بالاستحسان الجسدي، وهو شهوة، ثم تصعد الشهوة بالرضى الجنسي أو ما أشبهه لدى المحب والمحبوب (كقصة الرجل الذي كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، بل ربما كرهته، وسرعان ما يتحول الكره إلى كلف شديد لأنه كان بطيء الإراقة، تقضي المرأة شهوتها معه مرة أو مرتين) فتوافق الشهوة أخلاق النفس، فتنشأ المحبة. وعلى الرغم من غموض في عبارة " توافق أخلاق النفس " فان البون شاسع جداً بين النظرية الأولى والثانية، لأن النفسين في الحالة الثانية لم تتعارفا إلا بعد تعارف الجسدين، وليس من الضروري ان تكونا منقسمين في عالمها العلوي، فإذا أقررنا بهذا الاحتراس، انتقضت النظرية الأولى، وهي منقوضة منذ البداية، لأنها لا تستطيع ان تفسر حالات الحب في الواقع كما عرضها ابن حزم. ومثال واحد على ذلك يعد كافياً في هذا المقام: ابن حزم نفسه الذي لم يكن يؤمن إلا بالحب بعد تطاول الزمن، أحب أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً، فهل

(1/60)


--------------------------------------------------------------------------------

كانت نفسه تبحث عن صنوها فتجده في كل أنثى من الأربع تباعاً أو أنه عن طريق الاستحسان الجسدي كان يسلك الطريق إلى قلب المحبوب من الواضح أن الأمر الثاني هو الأصح، وهكذا يقال في الحكايات الكثيرة التي أوردها في كتابه؛ ولهذا يسقط القول بان الحب عند ابن حزم أفلاطوني.
ويعطي ابن حزم للحب الأول قوة الانطباع المحفور في الذوق إلى الأبد، فبعض الناس إذا أحب فتاة وقصاء او فوهاء أو شقراء جرى ذوقه طول حياته - على استحسان ما ألفه من صفة مميزة في محبوبه الأول إذا فقده، ويعلل ذلك بالحنين إلى الحب الأول.
ويتميز الحب الذي يسمى عشقاً عن سائر ضروب المحبة - في رأي ابن حزم - بأنه لا يفنى إلا بالموت، وانه يتقبل الخبل والوسواس وتبدل الطبائع والنحول والزفير، أي أنه لا ينقضي لأن علته دائمة (وهي في زعمه اتصال بين النفوس) بينما تقتضي ضروب المحبة الأخرى بانقضاء عللها. ومن تلك الضروب:
1 - محبة المتحابين في ذات الله.
2 - محبة القرابة.
3 - محبة الألفة والاشتراك في المطالب.
4 - محبة التصاحب والمعرفة.
5 - محبة البر يضعه المرء عند أخيه.
6 - محبة الطمع في جاه المحبوب.
7 - محبة المتحابين لسر يلزمهما ستره.
8 - محبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر.
وقد ترقى ابن حزم من هذه النظرة إلى القول (في رسالته: مداواة النفوس) بان المحبة ليست ضروباً وإنما هي جنس واحد، وغنما قدر الناس أنها تختلف لاختلاف الأغراض، واختلاف الأغراض فيها ناشئ

(1/61)


--------------------------------------------------------------------------------

عن اختلاف الأطماع، وعد هنالك ضروباً منها ثم قال: " فهذا كله جنس واحد على قدر الطمع فيما ينال " (1) .
ويضيف قائلاً: " فقد رأينا من مات على ولده كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه، وبلغنا عن من شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات، ويتدرج الطمع من الحظوة والزلفة لدى المحبوب (كما في حب الإنسان لله) إلى المجالسة فالمحادثة فالمؤازرة (محبة السلطان والصديق وذوي الرحم) وأقصى الطمع المخالطة بالأعضاء: " ولذلك نجد المحب المفرط في ذات فراشه يرغب في مجامعتها على هيئات شتى وفي أماكن مختلفة ليستكثر من الاتصال " فإذا انحسم الطمع لم تكن محبة، فالمجوسي يستحل ابنته واليهودي ابنة أخيه، للطمع الموجود، ولكن المسلم لا يفعل ذلك ولو أنهما أجمل من الشمس وكان هو أعهر الناس وأغزلهم، لذهاب مادة الطمع ، (2) ؛ وهكذا غابت تماماً نظرية الاتصال بين النفوس وحل محلها التلاحم الجسدي، على أشكال شتى. وكأننا بابن حزم بعد عهد " طوق الحمامة " أصبح أكثر إدراكاً لواقع العلاقات الإنسانية.
بل أزيد فأقول إن مفهوم الحب الأفلاطوني، حتى في عهد الطوق لم يكن يلائم ابن حزم، وإنما كان مادة دخيلة على واقعيته الشاهرة، ولعله أخذ بالفكرة من زاوية فلسفية، فلما راح يسرد نماذج من تجارب الحياة، لم يجد بين الفكرة والواقع لقاء. وحسبك من امرئ يعترف بان " الاغتصاب " يكون أحياناً طريقاً لتحقيق الحب، ماذا تراه يعني حين يقول: " وربما اتبع المحب شهوته وركب راسه، فبلغ شفاءه من محبوبه،وتعمد مسرته منه على كل الوجوه، سخط أو رضي " (3) ، اترى هذا يعني غير التحكم القاسر، وتنفيذ الإرادة التي لا رد لها !
__________
(1) رسائل ابن حزم: 138.
(2) المصدر السابق: 138 - 139.
(3) باب المخالفة (رقم: 15 ص: 160).

(1/62)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كان انقسام النفوس في عالمها العلوي (أو في هذه الخليقة) انقساماً يوازي الآية القرآنية: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " فأين يمكن ان يقع في سياق تلاقي الأجزاء حب الذكر للذكر (1) وإذا كان ذلك في أصل تجزئة النفوس فلماذا لم تكن سبيلاً إلى السكون ولقد أقر ابن حزم - على مستوى الواقع - بوجود هذا النوع من الحب، اعني انه ذكر " أحداثاً " بعضها معروف مشهور تتصل بذلك النوع، ولم يحاول ان يعللها - او يقرر إلى أين تنتهي - على أساس من فكرة انقسام النفوس، او حتى على أساس الاستحسان الجسدي الذي يؤدي إلى اتصال النفوس.
إن الاعتماد على فكرة انقسام النفوس (في عالمها العلوي أو في الخليقة) - وهي على الأساس الافلاطوني أو الأفلوطيني أجزاء من النفس الكلية المتصلة بالأول - لا يلبث لدى ابن حزم ان يتهاوى، لأننا نكتشف لديه ان النفس تعني عنده " الأمارة بالسوء " ، وهذه تنقاد للشهوات، وضدها العقل (وقائده العدل)؛ وهاتان الطبيعتان - العقل والنفس - قوتان من قوى الجسد الفعال بهما، وهما في تنازع مستمر، فغلبة العقل تعني اتباع العدل والاستضاءة بنور الله، وغلبة النفس تعني عمى البصيرة وضياع الفرق بين الحسن والقبيح " والروح واصل بين هاتين الطبيعتين وموصل ما بينهما " (2) ؛ وإذا فإن النفس التي يعرفها ابن حزم ليست قوة نورانية تحيط بها ستور الجسد وتحجب عنها التعرف إلى صنوها، كما قال في أول الرسالة، بل هي التي تؤدي إلى هلكة الإنسان، ورغم ذلك فإن ابن حزم يسميها هي والعقل " جوهرين عجيبين رفيعين علويين " وهكذا يضطرب ابن حزم اضطراباً واضحاً ويزيد من اضطرابه هنا تفرقته بين
__________
(1) ليس في طوق الحمامة أي شاهد على حب الأنثى للأنثى، مع ان الشواهد الأدبية التي يعرفها ابن حزم ولا بد مليئة بنماذج من هذا النوع، وانظر ص: 67.
(2) الباب: 29 (قبح المعصية ص: 268).

(1/63)


--------------------------------------------------------------------------------

النفس والروح، مع أنه يقول من بعد: " والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد " (1) .
إن هذا الصراع بين المفهوم الأفلاطوني للنفس والمفهوم القرآني، يقابله صراع آخر بين ابن حزم الاجتماعي الواقعي وبين ابن حزم الأخلاقي المتدين، فالأول منهما لا يؤمن بان النظرة الأولى لك والثانية عليك (2) ، ويقترب من المرأة بحيث يتجاوز نص الحديث " باعدوا بين انفاس الرجال والنساء " (3) ، والثاني يؤمن بعكس ذلك تماماً، إيماناً نظرياً فهو يقول: " والصالح من الرجال من لا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة التركيب " وفي سلوكه العملي يكرر النظر حتى ترسخ العلاقة ويلاحق المرأة من مكان إلى آخر، ويقول في السفير: ويجب تخيره واستجادته واستفراهه " (4) وكلمة " يجب " تدل على ان الأمر عملياً لابد من ان يقع، رغم أن المتدين القابع في نفس ابن حزم يقول: " وكم داهية دهت الحجب المصونة والأستار الكثيفة والمقاصير المحروسة والسدد المضبوطة " يعني من مثل ذلك السفير.
هنالك إيمان قار لدى ابن حزم وهو أن التعفف أمر عسير، ولا يملك - وهو يحض عليه - أن يجزم بأن من نجا في امتحان تحقيق الرغبة عند إمكانها لا يتعدى أحد سببين: طبع ليس من السهل استدراجه في لحظة أو كلمة وكلمتين، ولكن لو طال الامتحان لسقط فيه الممتحن، وبصيرة حادثة - على المكان - قهرت الشهوة وردتها إلى جحرها وأطفأت بنفخة قوية شعلتها، وهذا الإيمان مبني على ان بني الإنسان ذوو " بنية مدخولة ضعيفة " وأن استحسان الحسن وتمكن الحب طبع في أصل
__________
(1) الفصل 5: 74.
(2) الباب: 29 ص: 271.
(3) الباب السابق ص: 275.
(4) الباب: 11 ص: 141.

(1/64)


--------------------------------------------------------------------------------

الخلقة (1) ، ولما كان كذلك لم يكن واقعاً تحت الأوامر الدينية، إنما الأمور الدينية تنص على المحرمات، وهذه ليست من بنية الخلقة وإنما يأتيها الإنسان باختياره " وبحسب المرء المسلم ان يعف عن محارم الله " (2) . والسؤال الذي لا نظن ابن حزم يستطيع أن يجيب عنه هو: كيف يعف مع تلك البنية المدخولة الضعيفة، أو كان طبعه من السهل أن يستدرج في كلمة أو كلمتين، أو لم تحدث له بصيرة عاجلة تقاوم ثورة الشهوة لديه في حينها، أي لم يكن نبياً مثل يوسف الصديق ! إن ابن حزم يحل هذه المشكلة ويأتي بالجواب على المستوى الذاتي حين يقول: يعلم الله - وكفى به عليماً - أني برئ الساحة سليم الأديم صحيح البشرة نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا " (3) ، ولكنه حين يقص كيف تورط الآخرون، يستعيذ بالله مما فعلوه، أو يورد الحكاية دون تعليق.
فليس بمستغرب إذ أن تجد فقيهاً مثل ابن قيم الجوزية يتعقب هذا التناقض لدى ابن حزم إذ يقول: وذهب أبو محمد ابن حزم إلى جواز العشق للأجنبية من غير ريبة، وأخطأ في ذلك ظاهراً، فإن ذريعة العشق أعظم من ذريعة النظر وإذا كان الشرع قد حرم النظر لما يؤدي إليه من المفاسد فكيف يجوز تعاطي عشق الرجل لمن لا يحل له " (4) ثم وصف ابن حزم بأنه " انماع في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة " (5) وبين موقفي الرجلين بون واضح، سببه اختلاف المنطلق وزاوية النظر، ولا ريب في أن اقربهما إلى حقيقة الاجتماع
__________
(1) الباب: 12 (طي السر ص: 145).
(2) الباب السابق نفسه ص: 144.
(3) الباب: 29 (قبح المعصية: 272).
(4) روضة المحبين، 88، 89 وانظر أيضا: 118.
(5) روضة المحبين: 130.

(1/65)


--------------------------------------------------------------------------------

الإنساني هو ابن حزم، لأنه يأخذ بنظرة المؤرخ الاجتماعي دون أن يتخلى عن حد هام في الموقف الديني وهو " البعد عن الكبيرة " وما عداها فقد يكون من اللمم الذي يشمله الغفران، ولولا الفصل الذي عقده ابن حزم عن " قبح المعصية " لما اضطر إلى أن يظهر بمظهر المتناقض أحياناً في رسالته، فهي رسالة ترصد العلاقات العاطفية والمواقف النفسية.
ولو أنا رصدنا فيها ظاهرة الحب كما تتمثل في المجتمع الأندلسي، لخرجنا من ذلك بالجدول الآتي:
1 - حب بين ذكر وأنثى: 40 حالة (منها 6 حالات تعد المرأة فيها طالبة، ومنها 11 حالة تتحدث عن زوج وزوجة).
2 - حب بين ذكر وذكر: 7 حالات (3 منها ذكر فيها المحب والمحبوب، وحالتان ذكر فيهما المحب فقط، وحالتان أبهم فيهما اسم المحب والمحبوب).
3 - حالت مبهمة (1) : 23 حالة.
وهبنا تغاضينا في هذا الإحصاء عن أن المثل الواحد يصح شاهداً في عدة مواضع، وقبلنا بالأرقام كما جاءت، فإن الحالات المبهمة لا تمكننا من البت بنسبة ما يسمى الحب الشاذ إلى الحب الطبيعي، ولكننا إذا قدرنا أن هذه الإبهام متعمد فان ذلك قد يرفع من نسبة الحب (رقم: 2) في الجدول الي ما يزيد عن 50./.، مع علمنا بأن المجتمع الأندلسي مجتمع تغلب عليه الجواري (2) ، أو إن شئت قلت إنه مجتمع " غير مغلق " .
وكل هذه الحالات في " طوق الحمامة " نماذج لما يسمى العشق،
__________
(1) يعني ليس فيها ما يدل على أن المحبوب أنثى أو ذكر لغموض التعبير، كأن يقول: فتى وحل في الحب، محبوبه يعده الزيارة. الخ.
(2) لا علاقة لهذا الحكم بلفظة " جارية " كما وردت في رسالة طوق الحمامة، في هذا الموطن، وانظر الحديث عن ذلك فيما يلي.

(1/66)


--------------------------------------------------------------------------------

أو ما وضعه تحت مفهوم " اتصال النفوس " (مباشرة أو عبر الأجساد)، وقد كان في كل ذلك أميناً للموضوع الرئيسي في الرسالة، عير أنه كثيراً ما يلجأ إلى انتزاع أمثلة لا علاقة لها بالعشق، وإنما هي تنتمي إلى ضروب الحب الأخرى، كالمودة بين الاصدقاء، وحب الماضي الذي يمثل الغي والجاه " وغن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء " (1) ، وما يألفه المرء من ملبوس ومطعوم ومركوب وهذا أدخل في عنوان الرسالة " في الألفة والألاف " ولكنه يبدو هامشياً إزاء الموضوع الرئيس فيها؛ ولعل ابن حزم اختاره ليقوي معنى سيطرة العلاقات العاطفية جملة على مواقف الفرد. ولكن من اللافت للنظر ان الكتاب خال تماماً من أية إشارة إلى حب الانثى للأنثى (2) ، مع أن ابن حزم يتبجح في غير موطن بأنه وقف من أسرار النساء على ما لم يقف عليه أحد؛ فشهادة ابن حزم هنا على المجتمع الأندلسي تعد ناقصة.
وهي أيضاً شهادة محدودة، لأنها لا تصور المجتمع الأندلسي، ويجب أن لا تؤخذ كذلك؛ فإن اكثر الأحداث التي تستشهد بها إنما تتم - في الغالب - بين أناس من طبقة اجتماعية غنية، ومن هذه الطبقة أسر من موالي الأمويين - أي من سراة الناس وأصحاب المناصب العالية مثل بني حدير وبني عبدة وبني مغيث، ومنها رجال من البيت الحاكم أو من المقربين منه مثل ابن أبي عامر وعمار بن زياد مولى المؤيد هشام وعبيد الله بن يحيى الجزيري وبنت ابن برطال زوجة يحيى بن محمد بن الوزير يحيى، وعاتكة بنت قند صاحب الثغر الأعلى وزوجها أبو بكر ابن حزم (وأبوه وزير)، وابن الطبني من أسرة مقربة إلى العامريين، ومنها أفراد من أسر الكتاب - وهي اسر ذات مقام اجتماعي بارز، وأحياناً كثيرة تتمتع بكثرة الأموال العريضة والخدم والحشم؛ ولا يفتأ ابن حزم
__________
(1) الباب: 6 (من لا يحب إلا مع المطاولة: 125).
(2) أشار الدكتور الطاهر مكي الى هذه المسألة في كتابه " دراسات.. " ص: 338.

(1/67)


--------------------------------------------------------------------------------

يميز المحب أو المحبوب بصفة تدل على منزلته الاجتماعية: " فتى من أهل الجدة والحسب " " فتى من أبناء الرؤساء " ، " فتى من أبناء الملوك " " جارية لبعض الرؤساء " " امرأة موسرة ذات جوار وخدم " " فتى بسبب من الرئيس والجارية تحضر مجلس بعض أكابر الملوك " وهكذا، ومرة يذكر حب شاعر لا ينتمي إلى الطبقة الثرية (وهو الرمادي) وإن كان من طبقة برجوازية بحكم ثقافته، واخرى حب ن علق بهوى وهو في حال شظف (ولعل ذلك الشظف كان مرهوناً بظروف معينة). وذلك هو القطاع الاجتماعي الذي عرفه ابن حزم بحكم منتماه ونشأته.
وفي هذا القطاع تكثر الجواري، والجارية لفظة تدل في قصص الحب على " الفتاة " ، فإذا رشحت بنوع من الوصف يميزها قطعنا أنها ليست حرة، كأن يذكر أنها بيعت أو أعتقت، أو يتحدث عنها بصفة التملك " جارية لي " " جارية لي " فرغب بعض عجائزنا إلى سيدتها " وما أشبه، وإذا رشحت بوصف من نوع آخر كانت حرة مثل " جارية من ذوات المناصب والشرف من بنات القواد " أو " امرأة من معارفي ومعها جارية من قراباتها " فمثل هذا التحديد يعين أنها حرة. ومن بين إحدى وثلاثين حالة ذكرت فيها الجواري نجد تسع عشرة منها من الرقيق، واثنتين من الحرائر، واحدى عشرة حالة مبهمة ليس من السهل أن نقطع إلى أي الفريقين تنتمي؛ وهذا كله يعتمد على ورود اللفظة نفسها في النص، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اللواتي تزوج بهن بعض الأمراء والخلفاء مثل طروب وغزلان وصبح كن في الأصل جواري من الرقيق، ارتفع العدد كثيراً، ولهذا قلت فيما تقدم إن المجتمع الأندلسي كانت تغلب عليه الجواري، بمعنى أن الرقيق كان كثيراً، وتلك حقيقة تؤيدها المصادر الأخرى.
ولست هنا بصدد المقارنة مع ما كانت عليه الحال في المجتمع المشرقي، إذ ليس لدي تصور إحصائي أو شبه إحصائي يمكن من ذلك، ولكن إذا صح ان الجواري كن يغلبن على المجتمع الأندلسي فإن

(1/68)


--------------------------------------------------------------------------------

" قضية الحب " تقع تحت منظور جديد، وكذلك تكون المعاناة والعذاب والوجد بسببه أموراً تتطلب تفسيراً مقنعاً. وأول ظاهرة في هذا الحب أن أكثر الذين يعانون منه هم " الأبناء " في العائلات التي تملك الجواري، إذ يبدو بالإضافة إلى الجواري اللواتي كن في ملك الفتى ابن حزم - وهو لم ينفصل عن أهله بعد - أن القصر كان مليئاً بجوار أخر تتطلع أنظاره اليهن، وذلك يمكن أن يقال في فتيان آخرين من أبناء تلك الأسر، وكان ذهاب الجارية بالبيع، أو استئثار أخ دون أخيه الآخر بها، أو فراق أحدثته الحروب والأزمات، أو شؤون السفر، هي الأسباب التي رفعت درجة المعاناة إلى حد الخبل أحياناً، كما كان تعالي الفتى أو غفلته عما تحس به الجارية نحوه مسبباً في خروجها عن حد الحياء المنتظر في تصرفاتها. ولكن أشد الحالات التي تعز على التفسير هي معاناة الفتى بسبب تمنع جارية هي في ملك يده، وقد عبر ابن حزم عن هذه الظارهة حين قال: " فقد ترى الإنسان يكلف بامته التي يملك رقها ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها. فكيف الانتصاف منها " . أي انه يكلف بها، ولا يستطيع أن يحولها عن تمنعها ويتعذب بذلك (كما حدث لسعيد بن منذر ابن سعيد) وترفض الجارية ان تتزوجه، وهذا موقف يدل على إرهاف في العلاقة بين الأسياد والجواري، مثلما يدل على ان شخصية الجارية لم تكن دائماً محط إذلال، وخاصة حين يكون الأمر متصلاً بالعواطف، نعم قد يبيعها سيدها، وتصبح ملكاً لغيره، ولكنها هي لا تمنح محبتها بل ولا جسدها بحكم الملكية. ويجب هنا أن نتذكر أن الجواري كن أيضاً متفاوتات في المنزلة الاجتماعية، فمنهن اللواتي يتخذن للخدمة ومنهن اللواتي يتخذن للذة والنسل، والفريق الثاني بطبيعة الحال أرفع منزلة من الأول، ولكن إن شاءت الجارية ان تتحول من الحالة الأولى إلى الثانية فهذا ربما كان يعتمد على جمالها وعلى ما قد تحاول إتقانه من فنون، فأما تحولها من الثانية إلى الأولى فأمر مستهجن في عرف المجتمع حينئذ، وقد ينالها

(1/69)


--------------------------------------------------------------------------------

الضرب رجاء استبقائها على حالها، ولدينا مثال واحد يشير إلى وفاء جارية بيعت بعدما مات سيدها الأول فأبت أن تنصاع لرغبة مالكها التالي، وانكرت علمها بالغناء ورضيت بالخدمة رغم ما نالها من ضرب وتعذيب (1) .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
طوق الحمامة - بين النظرية والتطبيق -5-
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» طوق الحمامة - خطة الرسالة - -4-
» باب السفير- طوق الحمامة لإبن حزم - 21-
» باب طي السر- طوق الحمامة لإبن حزم -22-
» باب الإذاعة - طوق الحمامة لإبن حزم - 23-
» حال المرأة من خلال طوق الحمامة -6-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتــــدى أبنـــاء السلــــــــف :: منتدى الادباء،الشعر والخواطر-
انتقل الى: