9- الاحتجاج بالاختلاط الموجود في الطواف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
قالوا لو كان الاختلاط ممنوعا لما سمح صلى الله عليه وسلم بالاختلاط بالطواف بالبيت الحرام.
والجواب: من قال إن الاختلاط في الطواف جائز أصلا حتى تحتجون به، إن فعل الناس اليوم غير صحيح، ولذا كانت عائشة رضي الله عنها تطوف في ناحية بعيدة من الرجال لا تخالطهم كما في "صحيح البخاري" وكانت النساء تطوف بالليل وقبل الطواف يخرج الرجال ثم يبدأن الطواف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: "فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة") أ.هـ بكسر الدال المهملة.
والإسلام لم يبح الاختلاط بين الرجال والنساء لا في الطواف ولا في غيره لما يترتب عليه من المفاسد المحققة، كالنظر المحرم وما يتبعه من منكرات، فقد روى البخاري في "صحيحه"، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ: والطور وكتاب مسطور.
قال ابن حجر: (أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها).
وقال الباجي في شرحه على الموطأ: (وأما المرأة فمن سنتها أن تطوف وراء الرجال، لأنها عبادة لها تعلق بالبيت، فكان من سنة النساء أن يكن وراء الرجال كالصلاة).
وفي "صحيح البخاري" قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل قال إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب قلت كيف يخالطن الرجال قال: لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة – أي: معتزلة - من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: "انطلقي عنك وأبت"، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير قلت: وما حجابها قال: هي في قبة تركية لها غشاء وما بيننا وبينها غير ذلك ورأيت عليها درعا موردا).
أما ما يحصل الآن حول الكعبة شرفها الله من اختلاط بصورة مذمومة، مخالفة لما أمر به الشرع فليس دليلا على الجواز كما ذهب إليه بعض من تصدر للفتوى عندنا، لأننا نأخذ ديننا من الوحيين لا من واقع الناس.
10- قصة عمر مع أم كلثوم:
وهي قصة منقولة من "تاريخ ابن جرير" الطبري رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه:
(فاتبعته فدخل دارا ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا, فنبذ إلي بإحداهما فجلست عليها وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير فقال: "يا أم كلثوم غداءنا", فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق, فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا.قالت: إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل البلد, قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته, وكما كسا الزبير امرأته, وكما كسا طلحة امرأته, قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر. فقال: كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا) أ.هـ
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وهذه القصة باطلة لا تثبت رواية ولا دراية:
أما الرواية: فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء وبعضهم متهم بالكذب وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية.
وأما من حيث الدراية فمن وجوه:
1 - شذوذها ومخالفتها لما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب.
2 - مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ولا غيره من أهل العلم, وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها.
3 - ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها. وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك للتشويه من سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم, أو لمقاصد أخرى سيئة. نسأل الله العافية).
11- الاستدلال بحديث الربيع بنت معوذ
حديث خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي النبي غداة بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي: ("لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين").
رواه البخاري في "صحيحه".
والشاهد قولها: (فجلس على فراشي كمجلسك مني).
قال ابن حجر:(قوله: "كمجلسك" - بكسر اللام - أي مكانك, قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب, أو كان قبل نزول آية الحجاب, أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة. أ.هـ والأخير هو المعتمد, والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها, وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية).
قال القارئ في "مرقاة المفاتيح" معترضا على كلام الحافظ:
(هذا غريب فإن الحديث لا دلالة فيه على كشف وجهها، ولا على الخلوة بها، بل ينافيها مقام الزفاف، وكذا قولها: فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف).
أي: لا حاجة إلى القول بأن هذا من الخصوصيات لأنه لا خلوة أصلاً.
درس عظيم:
هذه بعض النصوص التي احتج بها بعض الناس على جواز الاختلاط، ونسأل الله أن ييسر لنا ذكر بقية النصوص مع كلام أهل العلم فيها في وقت لاحق.
وقد رأينا طريقة أهل العلم في حمل وتوجيه النصوص التي احتج بظاهرها بعض الناس على جواز اختلاط الرجال بالنساء، ونستفيد من توجيهاتهم للنصوص أن أصل المفاصلة بين الرجال والنساء متقرر بين أهل العلم ولا خلاف بينهم في ذلك، ولذلك قاموا بتوجيه ما رأوه مشكلا من النصوص حتى تأتلف فيما بينها ولم يضربوا بعضها ببعض، وهذه طريقة الراسخين من أهل العلم الذين يحملون المتشابه على موافقة المحكم لا طريقة أهل الزيغ الذين يجدون في المتشابه منفذا يتسللون به على النصوص.
نسأل الله أن يوفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.
جمادي الآخرة / 1431 هـ