وقال في (أدب الصحبة) :
( قال حكيم : متى انتظمت بينك وبين أحد صحبة ، فعليك حقوق وآداب يوجبها عقد الصحبة ، وهي الإيثار بالمال ، فإن لم يكن ، فبذل الفضل من المال عند الحاجة ، والإعانة بالنفس في الحاجات على سبيل المبادرة من غير إحواج إلى التماس ، وكتمان السر ، وستر العيوب ، والسكوت عن تبليغ ما يسوء من مذمة الناس إياه ، وإبلاغ ما يسره من ثناء الناس عليه ، وحسن الإصغاء عند الحديث ، وترك المماراة فيه ، وأن يدعوه بأحب أسمائه إليه ، وأن يثني عليه بما يعرفه من محاسنه ، وأن يشكره على صنيعه في وجهه ، وأن يذب عنه في غيبته إذا تُعرّض لعرضه كما يذب عن نفسه ، وأن ينصحه باللطف والتعريض إذا احتاج إليه ، وأن يعفو عن زلته وهفوته ، فلا يعتب عليه ، وأن يدعو له في خلوته في حياته وبعد مماته ، وأن يحسن الوفاء مع أهله وأقاربه بعد موته ، وأن يؤثر التخفيف عنه ، فلا يكلفه شيئا من حاجته ، ويروّح قلبه من مهماته ، وأن يظهر الفرح بما يباح له من مساره ، والحزن بما يناله من مكارهه ، وأن يضمر مثل ما يظهره ، فيكون صادقا في وده سرا وعلانية ، وأن يبدأه بالتحية عند إقباله ، وأن يوسع له في المجلس ، ويخرج له من مكانه(1) ، وأن يشيعه عند قيامه ، وأن يصمت عند كلامه ، حتى يفرغ من خطابه ، وأن يترك المداخلة في كلامه ، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله ولده ، وعن قدح غيره فيه ، وأن لا يخفي عليه ما يسمع من الثناء في حقه ، فإنّ إخفاء ذلك من الحسد ، وأن لا يسأله إذا رآه في طريق عن مصدره ومورده ، فربما ثقل عليه ذكره ، أو يحتاج إلى الكذب ، وأن يتجاهل عما يكرهه منه ، ويتغافل عن مناقشته .
أوصى أحد الحكماء(2) ابنه ، فقال : يا بني :
إذا عرضتْ لك إلى صحبة الرجال حاجة ، "فاصحب من إذا خدمته صانك ، وإن صحبته زانك ، وإن قعدت بك مؤونة مانك ، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن رأى سيئة سدّها ، اصحب من إذا سألته أعطاك ، وإن سكت ابتداك ، وإن نزلت بك نازلة واساك ، اصحب من إذا قلت صدق قولك ، وإن حاولتُما أمرا أمّرك ، وإن تنازعتما آثرك"(3))اهـ.
_________________________
(1) أما هذه فهي مخالفة لنهي النبي – صلى اله عليه وسلم – حيث جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
( لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم - وفي رواية- قال:
وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه).
رواه البخاري ومسلم .
(2) هو علقمة العطاردي كما في (الإحياء).
(3) وأين مثل هذا الصاحب؟!! إنما هو أعز من الغراب الأعصم أو أعز من الأبلق العقوق! .
وقال في ( أدب الأصدقاء) :
( ترفض صداقة من اشتهر بالبخل ، ومن اشتهر بالنميمة والثلب والسفه ، ومن عرف بالكبرياء والخفة والطيش وعدم حفظ السر ، أو اشتهر بحب الهذر والهذيان والتهتك والخلاعة والكسل ، ولا يقبل في التآخي من أصيب بخلل في عقله ، أو شذوذ في أفكاره ، حتى لا تسقط درجة آداب الإخوان وعلومهم ، ولا يكون بين أفرادهم واحد لا خير للإنسانية والعمران فيه.
قال حكيم :
احذر مؤاخاة من يجعلك أكبر همه ، ويؤثر ألا يخفى عليه شيء من أمرك! ، فإنه يتبعك ويأسرك.
قال الإمام الغزّالي :
إذا طلبت رفيقا ليكون شريكك في التعلم ، وصاحبك في أمر دينك ودنياك ، فراعِ فيه الشروط التي يصلح بها للأخوة والصداقة ، وهي خمس :
الأولى : العقل ، فلا خير في صحبة الأحمق ، فإلى الوحشة والقطيعة يرجع آخرُها ، وأحسن أحواله أن يضرك وهو يريد أن ينفعك ! ، والعدو العاقل خير من الصديق الأحمق الجاهل .
الثانية : حسن الخلق ، فلا تصحب من ساء خلقه ، وهو من لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة .
الثالثة : الصلاح ، فلا تصحب فاسقا ، فإن من لا يخاف الله تعالى لا تُؤْمنُ غوائله ، بل يتغير بتغير الأعراض والأحوال ، ومشاهدة الفسق والمعصية على الدوام تزيل عن القلب كراهية المعصية ، وتهون عليه أمرها.
الرابعة : لا تصحب حريصا ، فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل ، لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء ، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري!.
الخامسة : الصدق ، فلا تصحب كذّابا ، فإنك منه على غرور ، فإنه مثل السراب يقرب منك البعيد ، ويبعّد منك القريب . اهـ.
وقال بعضهم :
المختارون من الأصدقاء : أهل العلم والدين والحكمة والعقل ليفيدوه ، ويقوّوا قوة تمييزه وعلمه ، وأهل شرف يُستعان بجاههم في الملمات ، وأهل ثروة يُستعان بهم في لمّ الشعث ، وأهل محادثة طيبة في خلواته يفزع إليهم عند كربه والضجر من أعماله.
وأما أصدقاء الظاهر ، فينبغي مجاملتهم والإحسان إليهم ، وكتمان الأسرار عنهم ، وإخفاء الأحوال الخاصة عنهم ، وترك تحديثهم بنعمه .
وقال آخر:
معاشرة الأصدقاء لا تتم إلا بالمؤانسة والمداخلة ، ولابد في ذلك من المزاح المُسْتعذَب ، والأحاديث المستطابة ، والفُكاهة المحبوبة ، التي تطلقها الشريعة ويقدرها العقل ، حتى لا يتجاوزها إلى الإسراف فيها ، ولا يقصّر عنها تهاونا بها ، فإنها إذا خرجت إلى جانب الزيادة سميت مجونا وفسقا وخلاعة ، وما أشبهها من أسماء الذم ، وإلى جانب النقصان سميت تزمتا وعبوسا وشكاسة ، وما أشبهها من أسماء الذم أيضا ؛ والمتوسط بينهما هو الظريف الذي يوصف بالهشاشة والطلاقة ، وحسن العشرة.
ويعرض من الصعوبة في وجود هذا الوسط ما يعرض في سائر الفضائل الخلقية .
وقال حكيم :
متى حصل لك صديق يلزمك أن تكثر مراعاته ، وتبالغ في تفقده ، ولا تستهينن باليسير من حقه ، عند مهم يعرِض له ، أو حادث يحدث له.
فأما في أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق ، والخلق الرحب ، وأن تظهر له في عينك وحركاتك وهشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به كل يوم ، وفي كل حالة ثقة بمودتك ، وسكونا إلى غيبك ، ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر السرور فيها إذا لقيك.
وإن أصابته نكبة ، أو لحقته مصيبة ، أو عثر به الدهر ، كيف تكون مؤاساتك له بنفسك ومالك ؟!! وكيف يظهر له تفقدك ومراعاتك؟! ولا تنتظرنّ منه أن يسألك في مضض ما لحقه لتخفف عنه .
وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك فيها من غير امتنان و لا تطاول .
فإن رأيت من يحتشمك آنئذ فاجذبه إليك ، واختلط به ، وابرأ بذلك من الكِبْر والصلف .
ثم احذر المراء مع صديقك خاصة ، وإن كان واجبا أن تحذره مع كل أحد ، فإن مماراة الصديق تقتلع المودة من أصلها ، لأنها سبب التباين ، وقبح أثره لا يخفى ، فلا تقف مع المرء محبةٌ ، ولا ترجى به ألفة.
نعم ينبغي أن يكون كلٌّ مرآة لأخيه ، ينصح بعضهم بعضا ، ويرشد كل أخاه إلى سبيل الكمال ، و لا يكتم نقدَ ما يراه نقصا ، فمِن تبادل النقدِ في ساحة المودة على بساط الصفا يكون الكمال.
وينبغي أن لا تؤاخذ صديقك المخلص بالتقصير ، ولا تجازه عليه ، ولا تعاتبه عتابا مفرطا ، وأدم ملاطفته ، وتعهّد أشياءه ، واهد ما تستحسنه إليه ، واجتهد في الإكثار من الأصدقاء ، فإن الصديق زين المرء وعضده ، وناصره ومذيع فضائله )اهـ.