الثامن والأربعون :
أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها درة ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لما ظفر به من هواه البتة فتأمل انبساط يد يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام ولسانه وقدمه ونفسه بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام , وقال عبدالرحمن بن مهدي : " رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام ، فقلت له : ما فعل الله بك ، قال : لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى فحاسبني حسابا يسيرا ثم أمر بي إلى الجنة فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسا ولا حركة إذ سمعت قائلا يقول : سفيان بن سعيد ، فقلت : سفيان بن سعيد ، فقال : تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوما ؟ قلت : إي والله فأخذني النثار من كل جانب " .
وقال عبد الرزاق : " بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة ، وقال إن رأيتم سفيان فاصلبوه فجاءوا ونصبوا الخشب وطُلِبَ ورأسه في حِجر الفضيل ، فقال له أصحابه : اتق الله عز وجل ولا تشمت بنا الأعداء ، فتقدم إلى الأستار ثم أخذها بيده وقال : برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات قبل أن يدخل مكة " .
.
فتأمل عاقبة مخالفة الهوى كيف أقامه في هذا المقام .
التاسع والأربعون :
أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الظاهر وعز الباطن ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة وتذله في الظاهر وفي الباطن وإذا جمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم ألا ليقم المتقون فيقومون إلى محل الكرامة ، وأتباع الهوى ناكسو رؤسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه وأولئك في ظل العرش .
الخمسون :
أنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى ، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه ، والشاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك ، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات ، والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك ، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه ، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه ، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة ، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى ، فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير تم الكتاب والحمد لله .
نشر بتاريخ 26-10-2008