. (ت) الخروج على الأئمة كما فعلت الخوارج الحرورية مع الخليفة الراشد علي بن أبي طالب .
(ث) القول بخلود أهل الكبائر من أهل التوحيد في النار إن ماتوا قبل التوبة كما قالت الخوارج فيهم.
(ج) اعتقادهم الفاسد الجائر بأنه يجب على الله فعل الأصلح فالأصلح للعباد، فإن لَم يفعل ذلك يكون ظالِمًا لهم وهذه جرأة خطيرة على الله، غير أن القوم لا يبالون بالأخطار المترتبة على معتقداتِهم الفاسدة لجهلهم بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأحكامه العادلة وشرعه الكريم المطهر.
(ح ) الوقوع في بغض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم والنيل منهم والإزراء بِهم وذلك كالحكم على بعضهم بالفسق كقول واصل بن عطاء: "ولو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لَم أحكم بشهادتِهم"( ).
ومثل قول واصل قال عمرو بن عبيد: "لو أن عليًّا وعثمان وطلحة والزبير شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزته". وفي رواية: "والله لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أخذت بشهادتِهم".
كما صرح بعض أئمتهم -كالنظام- بالتطاول بالشتم والذم على الأفاضل من أصحاب رسول الله S كأبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم أجمعين- وعلى النظام ما يستحق هو ومن كان على شاكلته من المتقدمين والمتأخرين ممن ولغ في أعراض الأخيار من أصحاب رسول الله وممن أكل لحومهم التي حرم الشرع الكريم ذكرها بسوء بل أمر باحترامها والترضي والترحم على أصحابِها الذين لا يُكِنّ لهم البغض والحقد إلا منافق معلوم النفاق أو جاهل مقلد لأولئك الذين امتلأت صدورهم وقلوبُهم بغضًا وغلاًّ وحسدًا لأولياء الله في كل زمان ومكان.
وحقًّا إن لنا لتسلية في الآية الأخيرة من سورة الفتح: %مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ... الآية$ [الفتح: من الآية29]. وفي قول رسول الله S فيما يرويه عن ربه: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب))( ) الحديث.
إن هذه المخالفات لأهل السنة والجماعة ضرب واضح جلي من ضروب الإرهاب الفكري الخلفي؛ لما فيه من محاربة الحق وأهله؛ ولما فيه من التلبيس والتضليل على من قل نصيبه من العلم الشرعي والفقه في الدين.
ولقد تطور هذا الإرهاب الفكري واشتد خطره عندما تبنته السلطة في الدولة العباسية وفي خلافة المأمون الذي سلك طريقًا غير مأمون بسبب ما زينه له شياطين الإنس والجن من حاشيته أرباب الفكر الاعتزالي القائلين بما مضى تدوينه، حتى قال المأمون بن هارون الرشيد بما قالوه مخالفًا جميع الخلفاء العباسيين والأمويين من قبله، وعمم المأمون إلى جميع الأقطار لينشروا القول بخلق القرآن، ونفي الصفات.
وعلى العموم، نشر الفكر الاعتزالي المشئوم، وألزم به العلماء والوجهاء والأعيان، ومن أبى فسيكون عرضة للأذى الذي لا يطيقه إلا الكمل من الرجال كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر اللذين ماتا في الفتنة.
ومن الناس من أجاب مكرهًا ومنهم من أجاب مقلدًا ومنهم من أبى أن يجيب لمعرفته بأن ما دعا إليه المأمون وبطانته -كابن أبي داود ومن معه من دعاة الضلال ومبتغي الفتنة- بدع وضلالات.
وذلك الإباء كله نصرًا للحق وحراسة للعقيدة السلفية وإرضاء للرب ورحمة بالخلق صغيرهم وكبيرهم وأحرارهم وعبيدهم وذكورهم وإناثهم، واستمرت المحنة بعد عهد المأمون إلى عهد المعتصم والواثق من خلفاء الاعتزال، حتى أتى المتوكل فأعلن رفع المحنة على إثر مناظرة جرت بين يديه بين الإمام أحمد الذي أعز الله به السنة وبين خصومه الذين باءوا بسخط من الله.
ومن عجيب ما نقل عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- حينما قال له عمه إسحاق بن حنبل: يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابك وقد أعذرت فيما بينك وبين الله وبقيت في السجن والضيق. فقال الإمام أحمد: يا عم إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟! ثُمَّ ذكر حديث خباب الذي قال فيه: ((شكونا إلى رسول الله S وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟! فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثُمَّ يأتي بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون))( ).
قلت: وهكذا يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
ثُمَّ هكذا انتشر الإرهاب الفكري مؤيدًا بالإرهاب الحسي في هذه الحقبة من الزمن، أي: من عام 218-234هـ؛ لينال الإرهابيون من منهج السلف ما يشاءون من القضاء عليه والإزراء بأهله، ويأبى الله إلا أن ينصر هذا المنهج الحق وأهله ولو كره الإرهابيون الذين يريدون من وراء تصرفاتِهم الإرهابية علوًّا في الأرض وفسادًا والله لا يحب المفسدين.
للظلم عواقبه الوخيمة وعلى الباغي تدور الدوائر.
إن الذين تَمالئوا على إلحاق الأذى بإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل -رحمه الله- ومن معه -وما ثبت معه إلا قليل- لهم قصة عجيبة في الإرهاب الفكري وهم يلاحقون الإمام أحمد بالأذى في مجلس الخليفة الواثق بالله الذي فكر فيما دعا الناس إليه، بل أجبرهم على القول به وهو القول بخلق القرآن، لقد هَمَّ الخليفة بترك الخوض في هذه القضية بل هَمَّ أن ينادي في الناس بالكف عنها، فانبرى له أهل الإرهاب الفكري -خصوم الإمام أحمد من بداية المحنة إلى نِهايتها- وقالوا للخليفة الواثق: إن الذي ندعو الناس إليه لهو الحق فلا تمت سنة قد أحييتها ولا تعطل دينًا قد أقمته.
واجتهدوا في الإرهاب الفكري والإمعان في التضليل حتى أقنعوا الخليفة الواثق بحسن ما دعا إليه هو ومن قبله في عهد المأمون، الذي قلت قبل قليل: إنه سلك طريقًا غير مأمون بسبب من غره واستجهله من أهل الإرهاب الفكري.
أعود لأسطر القصة ذات العبرة والعظة التي نوهت عنها آنفًا فأقول: قال أبو محمد اليمني( ): روى التميمي قال: حدثني الثقة عن محمد بن وهب قال: كنت مؤذنًا للمتوكل بالله قبل أن يلي الخلافة فلما وليها أنزلني في حجرة من حجره الخاصة، فجلس ذات يوم في مجلسه الذي كان يسمى المربع، وقام ودخل بيتًا له من قوارير سقفه وحيطانه وأرضه -وقد أجري فيه الماء يعلو على البيت وأسفله وحيطانه ينقلب فيه، يراه من هو داخل كأنه جالس في جوف الماء، وقد فرش له من قباطي مصر ومساندها ومخادها والأرجوان، فدخل فجلس في مجلسه وجلس عن يمينه الفتح بن خاقان، وعبيد الله بن يحيى بن خاقان، وعن يساره بغاء الكبير ووصيف وأنا واقف في زاوية البيت اليمنى مما يليه وخادم بعضادة الباب واقفًا؛ إذ ضحك المتوكل ولزم القوم سكوتًا.
فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟.
قالوا: مما ضحك أمير المؤمنين أضحك الله سنك؟.
قال: أضحكني أني كنت ذات يوم واقفًا على رأس الواثق بالله وقد قعد الخاصة في مجلسي هذا الذي أنا جالس وأنا قائم؛ إذ قام من مجلسه حتى جاء فدخل البيت الذي أنا دخلته فجلس في مجلسي هذا ورمت الدخول إليه فمنعت فوقفت حيث الخادم واقف، فجلس ابن أبي دؤاد في مجلسك يا فتح، وجلس محمد بن عبد الملك الزيات في مجلسك يا عبد الله، وجلس إبراهيم بن إسحاق في مجلسك يا بغاء، وجلس نجاح فِي مجلسك يا وصيف، فقال الواثق بالله: لقد فكرت فيما دعونا الناس إليه من أن القرآن مخلوق وسرعة إجابة من أجابنا، وشدة خلاف من خالفنا حتى حملنا من خالفنا على السوط والسيف والضرب الشديد والحبس الطويل فلم يرعه ذلك ولَم يرد إلى قولنا، فوجدت من أجابنا رغب فيما في أيدينا فأسرع إلى إجابتنا رغبة منه فيما عندنا، ووجدت من خالفنا منعه ورعه من إجابتنا فصبر على ما ناله من الضرب والقتل والحبس، فوالله لقد دخل في قلبي من ذلك أمر شككت فيه وفي محنة من نمتحنه وعذاب من نعذبه في ذلك حتى لقد هممت بترك ذلك والخوض في الكلام فيه، ولقد هممت بالنداء بذلك، وأكف الناس بعضهم عن بعض.
فبدأ ابن أبي داود فقال: الله الله يا أمير المؤمنين أن تميت سنة قد أحييتها وأن تعطل دينًا قد أقمته فلقد جهد الأسلاف من قبلك فما بلغوا فيه ما بلغت، فجزاك الله عن الإسلام خير ما جزى أولياءه عن أوليائه.
فأطرق ساعة مفكرًا في ذلك أمر ينقض عليه قوله ويفسد عليه مذهبه ثُمَّ قال: والله يا أمير المؤمنين إن هذا القول الذي نحن عليه وندعو الناس إليه لهو الدين الحق الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله وبعث مُحمَّدًا S به ولكن الناس عموا عن قبوله