- 3 -
باب من أحب في النوم
ولابد لكل حب من سبب يكون له أصلاً، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلام على نسق، أو أن (1) يبتدأ أبداً بالسهل والأهون. فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.
خبر:
وذلك أني دخلت يوماً على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد (2) فوجدته مفكراً مهتماً فسألته عما به، فتمتع ساعة ثم قال لي: أعجوبة ما سمعت قط. قلت: وما ذاك قال: رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أياماً كثيرة تزيد على الشهر مغموماً لا يهنئه شيء وجداً، إلى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي قال: لا والله، قلت: إنك لفيل (3) الرأي مصاب البصيرة إذ تحب
__________
(1) أو أن: كذا وردت، ولعلها " لا أن " .
(2) يعني - في الأرجح - هشام بن الحكم المستنصر.
(3) رجل فيل الرأي أي ضعيف الرأي (اللسان: فيل) يقال بكسر الفاء وسكون الياء، وقد يقال: فيل وفيل وقال؛ وقد قرئت في معظم الطبعات: لقليل؛ وهو خطأ، وقرأ برشيه " لقائل " وهي مقبولة وان أبعدت عن رسم الكلمة، ولو قرئت لفليل - بالفاء - لكان ذلك وجهاً حسناً؛ وعند الصيرفي: لقيل، ولعلها خطأ مطبعي.
(1/115)
--------------------------------------------------------------------------------
من لم تره قط، ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمام (1) لكنت عندي أعذر؛ فما زلت به حتى سلا وما كاد.
وهذا عندي من حديث النفس وأضغائها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر، وفي ذلك أقول شعراً منه (2) [من البسيط]
يا ليت شعري من كانت وكيف سرت ... أطلعة الشمس كانت أم هي القمر
أظنه العقل أبداه تدبره ... أو صورة الروح أبدتها لي الفكر
أو صورة مثلت في النفس من أملي ... فقد تخيل (3) في إدراكها البصر
أو لم تكن كل هذا فهي حادثة ... أتى بها سبباً في حتفي القدر
__________
(1) هذا يدل على أن جدران الحمامات في الأندلس كانت تزين بالصور(كما أن الحال في بعض حمامات المشرق) انظر نفح الطيب 3: 348 وهنالك حكايات عن فتنة بعض الاندلسيين بالتماثيل؛ وفي ذلك دليل على شدة الاعجاب بالجمال الفني وجاء في الموشى (ص: 56) وبلغنا أن منهم من عشق صورة في حمام وخيالاً في منام وكفاً في حائط ومثالاً في ثوب.
(2) وردت الأبيات في ديوان الصبابة: 52 (دون نسبة).
(3) ديوان الصبابة: تحير.
(1/116)
--------------------------------------------------------------------------------