و قال في ( الأدب مع الوالدين) :
( هو أن يسمع كلامهما ، ويقوم لقيامهما ، ويمتثل أمرهما ، ولا يمشي أمامهما ، ولا يرفع صوته فوق أصواتهما ، ويلبي دعوتهما ، ويحرص على مرضاتهما ، ويخفض لهما الجناح ، ويحسن إليهما جهده ، ويبرهما ، ويكرمهما في حالتي عسره ويسره ، ويتوخى مسرتهما ، وترويح قلوبهما ، ولا يمُنَّ عليهما بالبر بهما ، ولا بالقيام بأمرهما ، ولا ينظر إليهما شزرا (1)، ولا يقطّب وجهه في وجوههما ، ولا يسافر إلا بإذنهما )اهـ.
______________________
(1) قال ابن منظور في (لسان العرب) :
(( شزر ) نَظَرٌ شَزْرٌ فيه إِعراض ، كنظر المعادي المبغض ؛ وقيل هو نظر على غير استواء بِمؤْخِرِ العين ؛ وقيل هو النظر عن يمين وشمال ، وفي حديث عليّ :"الْحَظُوا الشَّزْرَ واطْعُنُوا اليَسْرَ" ، الشَّزْرُ النظر عن اليمين والشمال ، وليس بمستقيم الطريقة ؛ وقيل هو النظر بمؤخر العين .
وأَكثر ما يكون النظرُ الشَّزْرُ في حال الغضب ، وقد شَزَرَهُ يَشْزِرُهُ شَزْراً وشَزَّرَ إِليه ، نظر منه في أَحد شِقَّيْهِ ولم يستقبله بوجهه...)اهـ.
وقال في ( الأدب مع الإخوة من النسب ) :
( يلزم الفتى أن يتأدب معهم ، ويحترمهم ، ويعرف أنهم أقرب الناس إليه بعد الأبوين ، ويحب لهم النفع والشرف أكثر من جميع الناس .
فأما أخوه الأكبر فإنه يجعله في منزلة أبيه ، فلا يرفع صوته عليه ، ولا ينازعه ، ولا يخالفه في وصاياه الجميلة ، ليكسب حبه ، ويسعى في منافعه .
وأما الذين هم أصغر منه فيواسيهم ، ويشفق عليهم ، ولا يضربهم ، ولا يشتمهم ، ويلاطفهم ، ويستجلب محبتهم بحسن الأخلاق ، ولطف المعاملة .
وإذا رأى منهم ما لا يليق ، فعليه أن ينهاهم باللطف والمعروف ، ويعرفهم ضرره ، ولا يسعى بهم عند أبيه بالفتنة(1) ، فتكثر الكراهة بينهم ، ويألفون الشر ، ويعتادونه بسببه ، فيعود الوبال عليهم ، وجلِيٌّ أن إخوة المرء هم أعوانه على سعادته وحسن حاله )اهـ.
_____________________
(1) لكن إذا كان الأمر معصية ، ولم ينتصحوا ، صار هنا واجبا عليه أن يخبر أباه ، ليكفهم عن الشر ، لأن الله تعالى يقول :
{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }.
و قال في (أدب الخدم ومعاملتهم) :
( يجب في الخادم أن يكون صالحا عفيفا أمينا نشيطا ذكيا ، فهو يقوم بحق الله بأداء ما أوجبه ، وحق من يخدمه ، فيعف عن حرمه ، ويغض من طرفه ، ويحفظ ما ائتمن عليه من مال وغيره ، ويخف للقيام بما يطلب منه بنشاط واعتناء ، ويفطن لما ينبغي أن يراد منه ، فيدري حسنه من قبحه ، وغشه من نصحه ، فيكون رجلَ حياة ، وإنسانَ معيشة .
وعلى سيد الخادم أن يرشده لمواقع الصواب ، وأصول واجباته ، وما ينبغي أن يتصف به ، و لا يكلفه ما لا يطيق ويشق عليه ، وأن يربيه باللطف والعقل ، ولا يهينه ببذيء الكلام ، وجافي اللفظ ، مما يجرح قلبه ، ويذل نفسه ، إذ ليس للسيد أن يتسلط على خادمه بذلك ، لا شرعا ولا عرفا .
ويجب على السيد أن يسمح للخادم بساعة في النهار يتروح فيها ، ويتمتع بشؤونه ، وأن يجري عليه مرتبا يكفيه ، ليكفه عن التشوف لما قد يسرقه ويختلسه ، فإن ما ينقصه السيد من مرتبه ربما اختلس من ماله ، وأن يزيد في راتبه كلما رآه يزيد في صدق الخدمة وحسن المعاملة ، ولا ينبغي للسيد أن يسرع في تبديل الخادم بمجرد هفوة ، أو حصول صغيرة ، وليتذكر أن لا معصوم إلا المعصوم ، فإن في تبديله مضارا عظيمة ، وأتعابا جسيمة ، نعم إذا علم أن فيه خلة فاسدة ، أو ملكة رديئة ، أو إصرارا على فحشاء ، فإنه يطرده عن بابه ، ويباعده من رحابه .
وعلى الأبناء أن يحتفظوا بخادم أبيهم أو جدهم ، وأن يحترموه لتقادم خدمته لهم ، وتربيته لهم صغارا ، و أن يرْعَوا حقه وحق آله وأولاده اعترافا بالجميل.
ومن الحمق وقلة العقل طرد الخادم الذي تقادم عهده ، واطلع على دخائل سيده ، وأسرار حرمه ، بلا باعث كبير ؛ أو إبعاد خادم أبيه وقد عرف شدة اتصاله به ، فإن هذا من لؤم الطبع ، وكفران العشرة ، وقلة المروءة .
وبالجملة : فكل من أراد أن يهنأ باله مع خادمه ، فليحسن معاملته ، ولينزله منزلة أحد عائلته ، وليبره فوق ما يأمل ، ولا ينل منه بما يجرح قلبه ، وليرفق به في سره وعلنه ، وليغض عما يجوز الغض منه ، وليرحم تعبه ، ولا يؤرقه لحاجته إذا أخذ مضجعه ، بل يشفق على راحته .
ويُحكى عن بعض خيار الأمراء أنه كان يحمل فرش ضيوفه على رأسه ليلا إلى محال نومهم ، ولا يوقظ خادمه لحملها ، شفقة منه ورحمة ، و " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى " )(1)اهـ.
__________________________
(1) ما أبعد الناس اليوم في معاملة خدمهم عن هذه الخصال الكريمة التي ذكّر بها العلامة القاسمي ! إلا من رحم ربي ، فإنك تراه إذا دعا خادمه زجره زجرا ، وقطب وجهه! ، وإذا احتاجه عنده للخدمة أبقاه واقفا مدة بقائه في المجلس!
فإن احتاجه وهو نائم تعب ، بكته ولامه على نومه ! وأيقظه بما يملك من لفظ جارح !
وتراه يكلفه بما لا يطيق ! فتراه تارة يكلفه أن يقوم بما ينبغي أن يتعاون عليه ثلاثة ! ولا يعينه !
وتراه إذا أخطأ خطأ صغيرا سبه وأهانه وضربه!!
وأما راتب هذا المسكين فلا تسل عنه! فإنه طوال فترة خدمته لا ينال إلا طعام بطنه! وأما راتبه فإنهم يسوفونه ! سوف سوف ، الشهر القادم ، والذي بعده ! فإذا قرب انتهاء عقده ، قطع له تذكرة ، ثم سفّره وحيدا فريدا مفلسا!! لا أدري أين قول النبي –صلى الله عليه وسلم - :
(ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة :
رجل أعطى بي ثم غدر .
ورجل باع حرا فأكل ثمنه.
ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)؟!!.
رواه البخاري.
وأين هو من ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)؟!
وعند الله تلتقي الخصوم في يوم يكون الوفاء فيه بالحسنات والسيئات !
والموعد الله تعالى .
رد مع اقتباس