السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخيرات، وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظموا تلك المواسم واقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات، واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم.
عباد الله، لقد استقبلتم شهراً كريماً، وموسماً رابحاً عظيما، لمن وفقه الله فيه بالعمل الصالح، استقبلتم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهراً تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، "أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار جعل الله صيام نهاره فريضةٌ من أركان إسلامكم وقيام لياليه تطوعاً لتكميل فرائضكم، من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم له من ذنبه ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجه فيه تفتح أبواب الجنة وتكثر الطاعات من أهل الإيمان وتغلق أبواب النار فتقل المعاصي من أهل الإيمان وتغل الشياطين فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره .
أيها المسلمون، صوم رمضان أحد أركان الإسلام، فرضه الله على عباده، فمن أنكر فرضيته فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع للمسلمين، قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]، وقال- سبحانه -: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185]، فالصوم واجب على "كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم ذكراً كان أم أنثى"(م1)، "غير الحائض والنفساء، فلا يجب الصوم على الكافر، فلو أسلم في أثناء رمضان لم يلزمه قضاء ما مضى منه، ولو أسلم في أثناء اليوم من رمضان أمسك بقية اليوم ولم يلزمه قضاءه، ولا يجب الصوم على صغير لم يبلغ، لكن إن كان لا يشق عليه أمر به ليعتاده، فقد "كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون أولادهم الذكور والإناث حتى إن الصبي ليبكي من الجوع فيعطونه لعبةً يتلهى بها إلى الغروب، ويحصل بلوغ الصغير إن كان ذكراً بواحد من أمور ثلاثة أن يتم له خمس عشرة سنة أو تنبت عانته أو ينزل مني باحتلام أو غيره هذه ثلاثة أمور للذكر والأنثى وتزيد الأنثى بأمر رابع وهو الحيض فمتى حاضت البنت ولو كان لها عشر سنين فإنها قد بلغت فإذا حصل واحد من هذه الأمور فقد بلغ من حصلت له ولزمته فرائض الله وغيرها من أحكام التكليف إذا كان عاقلاً، ولا يجب الصوم على من لا عقل له كالمجنون والمعتوه ونحوهما فالكبير المُهَذري لا يلزمه الصوم ولا الإطعام عنه ولا الطهارة ولا الصلاة لأنه فاقد للتميز فهو بمنزلة الطفل قبل تميزه ، ولا يجب الصوم على من يعجز عنه عجزاً دائماً كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه ولكن يطعم بدلاً عن الصيام عن كل يوم مسكين بعدد أيام الشهر لكل مسكين خمس صاع من البر أو من الرز يعني أن الصاع يكفي لخمسة فقراء عن خمسة أيام و الأحسن أن يجعل مع الطعام شيئاً يأدمه من لحم أو دهن وإن صنع في آخر رمضان طعاماً فعشَّى مساكين بعدد الأيام أجزى ذلك عنه ، لأن أنس بن مالك رضي الله عنه لما كبر صار يصنع طعاماً فيدعو ثلاثين فقيراً يأكلونه وبهذا تبرأ ذمته، وأن المريض بمرض يرجى برؤه فإن كان الصوم لا يشق عليه ولا يضره وجب عليه أن يصوم لأنه لا عذر له وإن كان الصوم يشق عليه ولا يضره فإنه يفطر ويكره له أن يصوم وإن كان الصوم يضره فإنه يفطر ويحرم عليه أن يصوم ومتى برئ من مرضه قضى ما أفطر فإن مات قبل برؤه فلا شيء عليه ، والمرأة الحامل التي يشق عليها الصوم لضعفها أو ثقل حملها يجوز لها أن تفطر ثم تقضى إن تيسر لها القضاء قبل وضع الحمل أو بعده إذا طهرت من النفاس والمرضع التي يشق عليها الصوم من أجل الرضاع أو ينقص لبنها من الصوم نقصاً يخل بتغذية الولد تفطر ثم تقضي في أيام لا مشقة فيها ولا نقص في لبنها والمسافر إن قصد بسفره التحيل على الفطر فالفطر حرامٌ عليه ويجب عليه أن يصوم وإن لم يقصد بسفره التحيل على الفطر فهو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر والأفضل له فعل الأسهل عليه فإن تساوى الصوم والفطر فالصوم أفضل ، لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولأنه أقرب في إبراء ذمته، ولأنه أحق من القضاء غالباً، ولأنه يصادف أيام رمضان وهي أفضل من غيرها، وإن كان الصوم يشق عليه بسبب السفر كره له أن يصوم، وإن عظمت المشقة به حرم أن يصوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح من ماء بعد العصر فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب والناس ينظرون، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة ، فلا فرق في المسافر بين أن يكون سفره عارضاً لحاجة أو مستمراً في غالب الأحيان، فأصحاب سيارات الأجرة التكاسي أو غيرها من السيارات الكبيرة فإنهم متى خرجوا من بلادهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء عند الحاجة، والفطر لهؤلاء أفضل من الصيام إذا كان الفطر أسهل لهم، ويقضونه في أيام الشتاء؛ لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها وأهلٌ فيها يأوون إليهم، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، وإذا خرجوا منها فهم مسافرون لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين، ومن سافر في أثناء اليوم في رمضان وهو صائم فالأفضل أن يتم صوم يومه، فإن كان فيه مشقة فليفطر ثم يقضه، ولا يتقيد السفر بزمن فمن خرج من بلده مسافراً فهو على سفر حتى يرجع إلى بلده ولو أقام مدةً طويلةً في البلد التي سافر إليها، إلا أن يقصد بتطويل مدة الإقامة التحيل على الفطر فإنه يحرم عليه الفطر ويلزمه الصوم؛ لأن فرائض الله لا تسقط بالتحيل عليها، وإنني بهذه المناسبة أنبه على أمرٍ يفعله الذين يذهبون إلى مكة للعمرة في أيام رمضان، تجد الواحد منهم يقدم في النهار فإذا قدم في النهار فإن أمامه ثلاثة أحوال، إما أن يبقى على صومه ويقضى العمرة مع التعب الشديد، وإما أن يؤخر العمرة إلى الليل بعد الإفطار، وإما أن يفطر ويقضي العمرة بنشاط في وقت قدومه، هذه ثلاث حالات فما هو الأفضل؟ نقول له: الأفضل أن تفطر وأن تقضي العمرة فور وصولك إلى مكة؛ لأنك إنما قدمت للعمرة لا للصوم بمكة، "والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم مكة معتمراً لم يبدأ بشيء قبل العمرة حتى إنه ينيخ راحلته عند باب المسجد ويتم عمرته ، صلوات الله وسلامه عليه، إن بعض الناس يقول: أنا أتحسف أن أفطر وأنا في مكة، ولكنا نقول له: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح دخل مكة في اليوم العشرين من شهر رمضان على المشهور في التاريخ وبقي صلى الله عليه وسلم مفطراً كل عشر رمضان الأخيرة أفطر في العشر الأواخر من رمضان وهو في مكة حتى انسلخ الشهر ؛ كما ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، فهل نحن أحرص على الخير من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ لا والله، لسنا بأحرص منه، ولسنا بأهدى منه، ولا هدي أكمل من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا شريعة أكمل من شريعته، ولا سنة خير من سنته - صلى الله عليه وسلم -، أفطر العشر الأواخر من رمضان في مكة ولم يصم حتى انسلخ الشهر؛ لأنه كان مسافراً، فهؤلاء الذين يشقون على أنفسهم في أداء العمرة هم إلى الإثم أقرب منهم إلى الأجر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في الصائمين في السفر الذين يشق عليهم الصيام قال: "ليس من البر الصيام في السفر ، ووصفهم "بأنهم عصاة ، وإن الأفضل لمن قدم مكة للعمرة أن يبادر بها قبل كل شيء؛ لأنه إنما قدم لها "ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء ولا يصح منهما ، إلا أن تطهرا قبل الفجر ولو بلحظة فيجب عليهما الصيام، ويصح منهما وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر.أيها المسلمون، في شهر رمضان يستقبل الناس أعمالاً متعددة ومنها: صيام رمضان، ومنها: قيام رمضان؛ الذي رغب فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - وقال : "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، فإن صلاة التراويح من قيام رمضان فأقيموها وأحسنوها وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف "فإن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة تامة وإن كان نائماً على فراشه، وإن على الأئمة أن يتقوا الله عز وجل في هذه التراويح فيراعوا من خلفهم ويحسنوا الصلاة لهم، فيقيمونها بتأني وطمأنينة ولا يسرعوا فيها فيحرموا أنفسهم ومن ورائهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها وسجودها وقعودها والقيام بعد الركوع فيها، لقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله -: أنه يكره للإمام أن يسرع سرعةً تمنع المأمومين أو بعضهم من فعل ما يسن، ويحرم على الإمام أن يسرع سرعة يمنع المأمومين أو بعضهم فعل ما يجب، وكثير من الأئمة في التراويح - نسأل الله لنا ولهم الهداية - يسرعون سرعةً تمنع المأمومين أو بعضهم فعل ما يسن، وأقل أحوال هذا الكراهة؛ كما ذكره أهل العلم، إن بعض الأئمة لا يكون همه إلا أن يخرج قبل الناس أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحكام الصلاة، مع أن الله - تعالى - يقول: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ [هود:7]، لم يقل: أيكم أسرع نهاية، ولم يقل: أيكم أكثر عملاً، وإنما قال: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ [هود: 7]،