التحقيق والتعليق١- وكان من أثر الاقتصار على الفروع العلمية المنتشرة دون استدلال ولا تعليل أن وقف الفقه عاجزا عن مسايرة الزمن واللحوق بنهضة الأمم وتلبية حاجات الناس، إذ ترتب على مسائله التعقيد والبعد عن الوقوف على أحكامه، ممّا أدى إل العزوف عن دراسته لتخلفه عن مسايرة التطورات المتلاحقة، فتوجه النّاس إلى النظم الوضعية لسد حاجاتهم وأصبح الفقه الإسلامي الذي ساد مئات السنين بمعزل عن حياة المسلم.
وترجع أهم أسباب تأخر الفقه إلى:
- إصابة الأمة بالضعف لتسلط المستعمر الأجنبي على الحكم، ولا يخفى أنّ السقوط السياسي يفضي إلى السقوط العلمي ويستتبعه السقوط الديني، ومن نماذج ذلك أنّ المستعمر الفرنسي ألغى الشريعة عقب احتلاله الجزائر سنة (1830م) وأدخل القانون الفرنسي في تونس سنة(1906م) وفي المغرب أدخل القانون الفرنسي فيها سنة (1913م) وغير ذلك ممّا وقع في بلاد العرب والمسلمين من المستعمرين المحتلين.
- انفكاك الصلة العلمية بين علماء الأقطار والأمصار وهو ما أدى إلى ضعف العلوم الشرعية.
- سد باب الاجتهاد وإحجام العلماء عن ولوجه، والركون إلى التقليد والجمود.
- انقطاع الصلة بين النّاس وبين الأئمة بسبب طرق التأليف الفقهي المعقد المتمثل في أنّ معظم المؤلفات ما هي إلا مختصرات لمؤلفات أخرى قد تكون بدورها مختصرة، فتنقلب محشوة بالعديد من الفروع في عبادات مقتضية وضيقة تشبه الألغاز، ومع قيام العلماء بالتباري في طريقة المتون التي سادت معظم البلاد إلى درجة الإبهام، الأمر الذي يدفع الحاجة إلى شرحها وتضييع الوقت والجهد في شروح مطولة ثمّ اختصار هذه الشروح في تراكيب فقهية عقيمة.
٢- ومن نصوص بعض علماء المغرب العربي في بلورة مناهج التعليم متحورة على المذهب المالكي في عهد بني عبد الواد الزيانيين وأثناء السيادة المرينية ونفوذها، قال المقري الجد: "ولقد استباح النّاس النقل من المختصرات الغريبة أربابها، ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها، وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع، وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع، ثمّ تركوا الرواية فكثر التصحيف، وانقطعت سلسلة الاتصال، فصارت الفتاوى تنقل من كتب من لا يدري ما يزيد فيها ممّا نقص منها لعدم تصحيحها، وقلة الكشف عنها، ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه، ولم يؤخذ عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط، ثمّ انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين، فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمن قبلنا، فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها، ولم يستعمل فيها على كَرَه من كثير منهم غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد، ثمّ كَلَّ أهل المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار، فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه، ونزر حظه، وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه، وحل لغوزه، ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح، فضلا عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح، بل هو حلّ مقفَل، وفهم أمر مجمل، ومطالعة تقييدات زعموا أنّها تستنهض النفوس، فبينا نحن نستكبر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ أتيحت لنا تقييدات للجهلة، بل مسودات المسوخ، (فإنّا لله وإنّا إليه راجعون)" [نفح الطيب للمقري:7/272-273].
وقد عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته[2/1028] عنونه بقوله: "في أنّ كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم" وفي فصل آخر[2/1021] عنونه بقوله: "في أنّ كثرة التآليف في العلوم عائقة من التحصيل" وقال في هذا الفصل ما نصه: "اعلم أنّه ممّا أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوع على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثمّ مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل، ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير، والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه، ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا، وهي كلّها متكررة والمعنى واحد، والمتعلم مطالب باستحضار جميعها، وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد فيها ".
٣- تصحيف في اسم الإمام وفي تاريخ وفاته، والصواب هو أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن محمد بن عبد البر المتوفى سنة (463ﻫ / 1070م) وتقدمت ترجمته.
٤- وفي نص كتاب "الجامع": عن
٥- هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زرطي التيمي الكوفي، الإمام الفقيه المجتهد صاحب المذهب، له فضائل ومناقب عديدة، ضعفه أئمة الحديث من جهة حفظه، ولا يحط ذلك مطلقا من قدره وجلالته في العلم والفقه الذي اشتهر به، توفي ببغداد سنة(150ﻫ) [انظر ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم:8/449، المعارف لابن قتيبة:495، الفهرست للنديم:255، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي:13/323، وفيلت الأعيان لابن خلكان:5/405، سير أعلام النبلاء للذهبي:6/390، ميزان الاعتدال للذهبي:4/265، الجواهر المضيئة للقرشي:1/49، وللمزيد من مصادر ترجمته انظر هامش مفتاح الوصول للتلمساني:336].
٦- هو أبو سليمان داود بن علي بن خلف البغدادي الظاهري المعروف بالأصبهاني، الحافظ المجتهد كان إماما ورعا ناسكا زاهدا متقللا، انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد في وقته، وكان معجبا بالإمام الشافعي حيث صنف في فضائله والثناء عليه كتابين، ثمّ صار صاحب مذهب مستقل وله تصانيف عديدة منها: "كتاب الأصول" و"كتاب الإجماع" كتاب "إبطال القياس" و"كتاب العموم والخصوص" توفي سنة(270هـ). [انظر ترجمته في: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي:8/369، طبقات الفقهاء للشيرازي:92، اللباب لابن الأثير:2/298، الكامل في التاريخ لابن الأثير:7/412، سير أعلام النبلاء للذهبي:13/97، وفيات الأعيان لابن خلكان:2/255، لسان الميزان لابن حجر:2/422، البداية والنهاية لابن كثير:11/47، مرآة الجنان لليافعي:2/184، شذرات الذهب لابن العماد:2/158]
٨- هو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي (من فحص البلوط: موضع قريب من قرطبة بالأندلس)، كان متفنّنا في ضروب العلوم، وله رحلة لقي فيها جماعة من علماء اللغة والفقه، وله مؤلفات منها: كتاب الأحكام، والناسخ والمنسوخ. ولي قضاء الجماعة بقرطبة إلى أن توفي سنة(355ﻫ). [انظر ترجمته في:اللباب لابن الأثير: 1/176. الروض المعطار للحميري: 95. البداية والنهاية لابن كثير: 11/288. المرقبة العليا للنباهي:66. إنباه الرواة للقفطي: 295 . طبقات النحويين واللغويين للزبيدي: 295.]
٨- والبلوطي تفقه بفقه أبي سليمان داود الأصبهاني ويؤثر مذهبه، ويحتج لمقالته، وكان جامعًا لكتبه، غير أنّه كان يقضي بمذهب مالك وأصحابه إذا جلس مجلس الحكم والقضاء [انظر طبقات النحويين للزبيدي: 295].
٩- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 171-72.
١٠- هذه المرحلة التي حدّدها أهل العلم للفقه الإسلامي إنّما كانت في الدور الرابع من تطوره الذي يبتدئ من منتصف القرن الرابع الهجري وينتهي بسقوط بغداد سنة( 756ﻫ )، وقد كان من أهمّ نشاط العلماء في هذا الدور يتجلّى في البحث عن علل الأحكام التي وردت عن الأئمة السابقين غير معللة، والترجيح بين الآراء المختلفة في المذهب، ونصرة المذاهب إلى أبعد حدود جملة وتفصيلاً، ووصل فيها التعصب والمبالغة في التقليد والجمود على المذهب أن حمل بعضهم إلى النيل من المخالفين.
١١- هذا اللفظ ورد من طريق فيها انقطاع كما صرّح به ابن كثير في تفسيره: (1/467)، وورد من طريق آخر بلفظ " كلّ الناس أفقه من عمر" قال ابن كثير في تفسيره: (1/467): "إسناده جيد قوي". والحديث ضعّفه الألباني في "حقوق النساء لمحمّد رشيد رضا"، وقال: "سنده ضعيف وفيه نكارة" (انظر تفسير القرطبي: 5/99).
١٢- هو محمّد بن عبد الله بن محمّد المعافري الإشبيلي، الشهير بأبي بكر بن العربي المالكي، كان من كبار علماء الأندلس، ولي قضاء إشبيلية، ثمّ صرف من القضاء، وأقبل على نشر العلم، وله تصانيف شهيرة منها: " العواصم من القواصم" و" أحكام القرآن" و" قانون التأويل" و" عارضة الأحوذي" و" المحصول في أصول الفقه"، توفي بالقرب من فاس سنة: (543ﻫ)، وحمل إليها ودفن بها.
[ انظر ترجمته في: الصلة لابن بشكوال: 2/590. المرقبة العليا للنباهي: 105. وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/296. الديباج المذهب لابن فرحون: 281. الوفيات لابن قنفد: 279. شذرات الذهب لابن العماد:4/141. الفكر السامي للحجوي: 2/221].
١٣- "العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي -رحمه الله- كتاب مطبوع ومتداول وكان للشيخ عبد الحميد ابن باديس السبق إلى نشره بقسنطينة في جزئين: الجزء الأول في سنة: 1347ﻫ - 1927م، والجزء الثاني في سنة: 1348ﻫ / 1927م، وقد اعتمد شيخ النهضة الجزائرية على نسخة مخطوطة مزيدة بجامع الزيتونة، وقد نشر الأديب محبّ الدين الخطيب عليه جزءًا منه وهو مبحث الصحابة رضي الله عنهم ووسم بعنوان" العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" وقد حققه وعلّق على حواشيه ثمّ طبع الطبعة الثانية في سنة: ( 1375ﻫ)، ثمّ راجعه محمود مهدي استنبولي لتحقيق أحاديثه وزيادة إثبات براءة الصحابة ممّا نسبه إليهم الملاحدة والمفسدون، ثمّ أخرج الكتاب كاملاً د. عمار طالبي تحت عنوان: " آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، ونقده للفلسفة اليونانية" وكانت الطبعة الثانية منه في الجزائر سنة: (1981م).
١٤- تقع شمال ولاية الأندلس في جنوب الأندلس على بعد 400كلم جنوب العاصمة مدريد،(من موقع:
www.red2000.com/spain) [انظر: مراصد الاطلاع للصفي البغدادي:3/1078، الروض المعطار للحميري:456].
١٥- تقع في جنوب ولاية "كاستيل إليون" في شمال غرب الأندلس على بعد 212كلم شمال غرب العاصمة مدريد، (من موقع:
www.red2000.com/spain) [انظر: مراصد الاطلاع للصفي البغدادي:2/891، الروض المعطار للحميري:393].
١٦- حي من أحياء مدينة طليطلة مشهورة بصناعة الفخار، (من موقع:
www.red2000.com/spain) [انظر: مراصد الاطلاع للصفي البغدادي:2/890، الروض المعطار للحميري:395].
١٧- تقع في غرب ولاية "كاستيل لمنشة" وسط الأندلس على بعد 71كلم جنوب غرب العاصمة مدريد،(من موقع:
www.red2000.com/spain) [انظر: مراصد الاطلاع للصفي البغدادي:2/892، الروض المعطار للحميري:393].
١٨- العواصم من القواصم لابن العربي: 2/492.
١٩- هكذا بدأت النهضة الإصلاحية في الجزائر، والدعوة إلى العناية بالتعليم الديني، وتخليص الفقه ممّا علق به حتّى يسعه من متابعة نهوض الأمم والاستجابة لمطالب الحياة، وهذه الدعوة لا تخرج عن سائر الدعوات الإصلاحية في بعض الأقطار الإسلامية التي جاءت في فترات متلاحقة في أوائل القرن الثالث الهجري حيث تلتقي أهدافها ومراميها على الإصلاح الديني والتربوي الذي تظهر أهم محاوره في الرجوع بالفقه والتعليم إلى مصادره الأولى والاستفادة منه بأجمعه من غير تقيد بمذهب معيّن وذلك بالعناية بدراسة الفقه المقارن والاهتمام بالدراسة الموضوعية بأسلوب سهل واضح وترك التراكيب الفقهية العقيمة والمعقدة أو التقليل منها، ومحاربة التقليد والتعصّب والجمود والدعوة إلى الاجتهاد الصحيح القائم على الإدراك العميق لأسرار الشريعة وأبعادها ومراميها، والفهم الدقيق لِحِكمها وتعليلاتها و الاستناد إلى الأدلة المعتمدة في استنباط الأحكام وهي من أهمّ وسائل التطور في الفقه الإسلامي الذي يمكن المجتهدين من مواجهة النوازل والقضايا الشائكة والأحداث المعقّدة بالحلول الوافية في كلّ الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة.
الجزائر في: 1 محرم 1427ﻫ .
الموافق لـ: 31 يناير 2006م.