معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة
الفصل الثالث: حكم الإمامة ،والحكمة منها وبيان مقاصدها
أولاً : حكم الإمامة :
نصب الإمام فرض واجب على المسلمين، وهذا باتفاق الأئمة والأمة ، لا ينازع في ذلك غلا مبطل أصم عن نصوص الكتاب والسنة.
وإجماع الصحابة بعد موت النبي ( عن نصب الإمام قبل الاشتغال بدفنه ( دليل قاطع على أنه من أهم الواجبات (78).
وقد حكى الإجماع على ذلك أهل التحقيق من العلماء، ففي (( الأحكام السلطانية )) (79) – لأبي الحسن الماوردي- :
(( وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب – بالإجماع -، وإن شذ عنهم الأصم ))
قلت : الأصم، هو : أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ المعتزلة (80) ! ولا عبرة بخلافه، بل قال القرطبي – رحمه الله تعالي – في (( الجامع لأحكام القرآن )) (81)
(( ولا خلاف في جواب ذلك – أي : عقد الإمامة – بين الأمة، ولا بين الأئمة، غلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه )) .اهـ
ومن الأدلة على وجوب نصبه :
1- أن الشرع المطر علق أحكاماً كثيرة بالإمام منها قوله- تعالي - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ( (82)
2- ومنها قوله ( : (( من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية )) (83) ، فكيف يأمر – تعالي – بطاعة الإمام وليس وجوده واجباً ؟ وكيف يموت – من يموت وليس في عنقه بيعة – ميتة جاهلية، والإمام ليس واجباً وجوده ؟
3- قال أبو داود في (( سننه )) (84) : باب في القوم يسافرون، يؤمرون أحدهم، وأخرج فيه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -، أن رسول الله ( قال :
4- (( إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم )).
وعن نافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله ( قال :
(( إذا كان ثلاثة فليؤمروا أحدهم )).
قال نافع : فقلنا لأبي سلمة : فأنت أميرنا !
رجال الحديثين ثقات ،واضطراب محمد بن عجلان فيه – مرة يجعله من حديث أبي هريرة ومرة يجعله من حديث أبي سعيد - : لا يضر، لأنه انتقال من صحابي إلي آخر وكل حجة، فالحديث صحيح.
أفاد ذلك العلامة الألباني – رحمه الله تعالي - (85)
وأخرج الإمام أحمد في ((المسند )) (86)، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص، أن رسول الله ( قال :
(( ... ولا يحل لثلاثة نفر، أن يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم ))
قال الهيثمي في (( المجمع )) (87) : رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وهو لين، وبقية رجاله رجال الصحيح. ا هـ.
قلت : يعضده ما سلف .
وأخرج البزار في (( مسنده )) (88) ، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، أنه قال :
(( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم، ذاك أمير أمره رسول الله ( )).
قال ابن كثير : (( هذا إسناد جيد ...)) (89)
وصور الدارقطني وقفه على عمر (90)
وقد دل هذا الحديث على وجوب الإمامة من جهة أنه ( أوجب على الثلاثة تأمير أحدهم إذا سافروا مع قلة عددهم، وقصر مدة بقائهم فكان نصب الإمامة في الحضر أولي.
أفاد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (91)
وبناء على هذه الأدلة الشرعية ونحوها، فإن تولي الإمامة فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين.
قال القاضي أبو يعلى (92)
(( وهي فرض على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس، أحدهما : أهل الاجتهاد، حتى يختاروا.
والثانية : من يوجد فيه شرائط الإمامة، حتى ينتصب أحدهم للإمامة )) .اهـ.
ثانياً : الحكمة من الإمامة :
1- طبع بنوا آدم – إلا الأنبياء والمرسلين – على حب الانتصاف وعدم الإنصاف، فلو لم يكن عليهم سلطان يسوس أمورهم لكانوا كوحوش الغابة وحيتان البحر يأكل القوي الضعيف.
وأن شئت أن تري هذه الحقيقة نصب عينيك فانظر في هذا الزمن – مثلاً – إلي (( إشارات المرور )) كيف تنظم هذه الإشارات سير الناس بسياراتهم، فإذا حصل عطل فهل رأيت شريعة الغاب ترفع أعلامها، فلا تسأل عن المقاحمات الشديدة بين قائدي السيارات، كل منهم يريد أن ينفذ الأول، لا فرق بين متعلمهم ومثقفهم وبين جاهلهم وسوقيهم، حتى إذا أصبحت السيارات – جميعها – ككتلة واحدة، بدأ السباب والشتام، وقد يرتقي غلي الضرب ونحوه، حتى يجيء شرطي المرور، فيحتاج وقتاً لتنظيم هذا السير، وفك هذا الاختناق.
فما بالك بالبلد التي لا سلطان فيها يحكم أمرها فيمنع المظالم وينصف أصحاب الحقوق، وينظم أحوال الناس في معاشهم .. ؟ لا ريب أنها ستكون مسرح فوضى، وفلاة سباع.
ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين على بن أبي طالب – رضي الله عنه - : (( لا يصلح الناس إلا أمير بر، أو فاجر ))
قالوا : يا أمير المؤمنين هذا البر، فكيف الفاجر ؟ !
قال : (( إن الفاجر يؤمن الله – عز وجل – به السبيل ويجاهد به العدو ويجيء به الفيء، وتقام به الحدود، ويحج به البيت ويعبد الله فيه المسلم آمنا حتى يأتيه أجله )).
أخرجه وكيع في (( أخبار القضاة )) (93) والبيهقي في (( الشعب )) (94).
فتأمل – أيها المسلم – هذا الكلام الصادر عن علم من أعلام الإسلام، وأحد الخلفاء الراشدين الكرام، الذي عاني في فترة خلافته من تفرق المؤمنين، والاختلاف بينهم في أمر الدنيا والدين، فكلامه هذا من شرع الله – تعالي – فبه يجب الأخذ والتسليم، ثم هو خلاصة تجربة من بلغ أعلى مراتب السياسة، وأجل مقامات الولاية، فعض على حديثه الرائق بالأسنان، وإياك ثم وإياك من نزعات الشيطان.
ولما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون – وكان فيها ما كان – أنطلق الإمام أحمد بن حنبل من القاعدة الشرعية والتجربة المرعية، فقال _ رحمه الله تعالي – في رواية المروذي عنه :
(( لابد للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس ؟ !
وقال – أيضاً - :
(( والفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس )).
أخرجه الخلال في (( السنة (95)
وهكذا كل عالم بل كل عاقل من بني آدم لا يخرج إلا بهذه النتيجة ولا يعقد قلبه إلا على هذه العقيدة.
2- كل بني آدم لا تتم مصلحتهم – لا في الدنيا ولا في الآخرة – إلا بالاجتماع والتعاون، والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم.
ولهذا يقال : الإنسان مدني بالطبع.
فإذا اجتمعوا، فلابد لهم من أمور يفعلونها، يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد.
فجميع بني آدم لابد له من طاعة آمر وناه ... إلخ. ا هـ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الحسبة )) (96)
ثالثاً ً مقاصد الإمامة :
جماع مقاصد الإمامة والولاية على المسلمين : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال المولي – عز وجل - : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ( (97)
وقال – عز وجل - : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ((98)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي - : (99)
(( المقصود والواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا ،وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم )) ا هـ.
فأفاد – رحمه الله – أن مقاصد الإمامية، تتمثل في مقصدين عظيمين :
الأول : القيام بدين الله – عز وجل -.
والثاني : القيام بما يصلح الدنيا وفق ما جاء به الشرع المطهر وأباحه.
فرجع الأمر كله في سياسة الأمة إلي الله وحده ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ .... (، فدين الله الإسلام الذي بعث به نبينا محمد ( هو خاتم الأديان، وأكملها، جاء لتنظيم مصالح الناس في الدين والدنيا قال تعالي ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ( (100)
وقال ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( (101)
فمن زعم أن هذا الدين العظيم فرط في بعض ما يحتاجه الناس في أمر الدين، أو السياسة الدنيا، فقد رد على الله عز وجل خبره، فخاب وخسر خسراناً مبيناً.
يقول الإمام الشافعي – رحمه الله تعالي - :
(( لا سياسة إلا ما وافق الشرع )) (102)
وعبارة الشافعي – هذه – صريحة في أن السياسة العادلة المحمود صاحبها هي الموافقة لشرع الله، الذي جاء به قرآن يتلى أو سنة تهدي، أو إجماع أو قياس معتبران في الشرع المطهر، وذلك حق، إذ في هذه الأدلة الأربعة من بيان الأحكام للأمور المستقرة والمستجدة من نوازل كل عصر، ما يكفي لكون هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان إلي قيام الساعة.
ومن هذا البيان يتضح أن تقسيم الناس الحكم إلي شريعة وسياسة تقسيم باطل ! وضح هذه العالمة ابن قيم الجوزية – رحمه الله تعالي -، فقال في معرض رده على من زعم ذلك : والسياسة نوعان : سياسة عادلة، فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها لا قسيماتها.
وسياسة باطلة، مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل ...))
إلي أن قال (( فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثة الأنبياء وغيرهم، وأصله مبني على حرف واحد وهو عموم رسالته ( بالسنة إلي كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم، التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم ،وأنه لا حاجة إلي أحد سواه البتة وإنما حاجتنا إلي من يبلغنا عنه ما جاء به.
فمن لم يستقر هذا في قلبه، لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول.
بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك ن كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلي المكلفين فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة كذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلي سواه، وإنما يحتاج إلي غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته، وإلا فقد توفي رسول الله ( وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علماًء علمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود والأكل والشرب والركوب والنزول ووصف لهم العرش والكرسي ،والملائكة والجنة والنار ويوم القيامة وما فيه حتى أنه رأي عين، وعرفهم بربهم ومعبودهم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه بما وصفه لهم به من صفات كماله ،ونعوت جلاله وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جري لهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من أحوال طرق الخير والشر – دقيقها وجليلها – ما لم يعرفه نبي لأمته قبله وعرفهم من أحوال الموت وما يكون بعده من البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما جلي لهم ذلك حتى كأنهم عاينوه.
وكذلك عرفهم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع طوائف أهل الكفر والضلال، ما ليس لمن عرفه حاجة إلي كلام أحد من الناس البتة، وكذلك عرفهم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق الظفر به ما لو علموه وفعلوه، لم يقم لهم عدو أبداً.
وكذلك عرفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها ويحترزون بها من كيده ومكره، وما يدفعون به شره ما لا يزيد عليه.
وبذلك أرشدهم في معاشهم إلي ما لو فعلوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.
وبالجملة فقد جاءهم رسول الله ( بخير الدنيا والآخرة بحذافيره ولم يجعل الله بهم حاجة إلي أحد سواه، ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل بعده رسولاً، لاستغناء الأمة به عمن سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلي سياسة خارجة عنها ؟ ! أو إلي حقيقة خارجة عنها ؟ ! أو إلي قياس خارج عنها ؟ ! أو إلي معقول خارج عنها ؟ ! فمن ظن ذلك، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلي رسول آخر بعده وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك :
قال – تعالي - ( أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
وقال – تعالي : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (
وقال – تعالي - : ( إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (
وقال – تعالي - : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (
وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما في الناس محتاجون إليه - على زعمهم الباطل - ؟!
ويا لله العجب ! كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين، واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال ؟ أهل كانوا مهتدين بالنصوص ؟ أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم وأهدى منهم ؟ ! هذا ما لا يظنه من به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان.
ولكن من أوتي فهماً في الكتاب أو أحاديث الرسول ( أستغني بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وهذا الفصل لو بسط كما ينبغي لقام منه عدة أسفار، ولكن هذه لفظات تشير إلي ما وراءها. ا هـ كلام ابن القيم – رحمه الله تعالي – من (( بدائع الفوائد )) (103)
وقد بين العلماء كثير من المقاصد الأساسية للإمامة في الشريعة الإسلامية ما بين مطول ومختصر، وألف صديق حسن خان ( المتوفى سنة 1307 هـ ) كتاباً بعنوان (( إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة )).
ولما رأيت العلامة ابن جماعة الكتاني – رحمه الله تعالي – قد استوفي جل هذه المقاصد وعبر عنها بالحقوق الواجبة على السلطان، آثرت سياقها كما ذكرها، حيث ذكر الحقوق التي للسلطان والحقوق التي عليه، وهذا مسردها (104)
(( للسلطان أو للخليفة على الأمة عشرة حقوق، ولهم عليه عشرة حقوق ))
أما حقوق السلطان العشرة :
فالحق الأول :
بذل الطاعة له ظاهراً وباطناً في كل ما يأمر به أو ينهي عنه إلا أن يكون معصية، قال الله – تعالي - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ( .
وأولو الأمر هم : الإمام ونوابه – عند الأكثرين –
وقيل : هم العلماء (105)
وقال النبي ( : (( السمع والطاعة على المسلم فيما أحب – أو كره – ما لم يؤمر بمعصية )) .
فقد أوجب الله – تعالي – ورسوله : طاعة أولي الأمر ولم يستثن منه سوي المعصية فبقي ما عداه على الامتثال .
الحق الثاني :
بذل النصيحة له سراً وعلانية .
قال رسول الله ( : (( الدين النصيحة ))، قالوا : لمن ؟ قال : (( لله، ولرسوله، ولكتابه ولأئمته المسلمين، وعامتهم )).
الحق الثالث :
القيام بنصرتهم باطناً وظاهراً ببذل المجهود في ذلك لما فيه نصر المسلمين وإقامة حرمة الدين وكف أيدي المعتدين.
الحق الرابع :
أن يعرف له حقه وما يجب من تعظيم قدره، فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله – تعالي – له من الأعظام، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم، ويلبون دعوتهم مع زهدهم وورعهم، وعدم الطمع فيما لديهم وما يفعله بعض المنتسبين إلي الزهد من قلة الأدب معهم، فليس من السنة.
الحق الخامس
إيقاظه عند غفلته ،وإرشاده عند هفوته، شفقة عليه، وحفظاً لدينه وعرضه، وصيانة لما جعله الله إليه من الخطأ فيه
الحق السادس :
تحذيره من عدو يقصده بسوء، وحاسد يرومه بأذى أو خارجي يخاف عليه منه، ومن كل شيء يخاف عليه منه – على اختلاف أنواع ذلك وأجناسه – ن فإن ذلك من أكد حقوقه وأوجبها .
الحق السابع :
إعلامه بسيرة عماله الذين هو مطالب بهم ومشغول الذمة بسببهم، لينظر لنفسه في خلاص ذمته، وللأمة في مصالح ملكه ورعيته.
الحق الثامن :
إعانته على ما تحمله من أعباء الأمة ومساعدته على ذلك بقدر المكنة، قال الله – تعالي - ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى (، وأحق من أعين على ذلك ولاة الأمور.
الحق التاسع :
رد القلوب النافرة عنه إليه وجمع محبة الناس عليه لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة .
الحق العاشر :
الذب عنه بالقول والفعل وبالمال والنفس والأهل، في الظاهر والباطن والسر والعلانية .
وإذا وفت الرعية بهذه الحقوق العشرة الواجبة، وأحسنت القيام بمجامعها، والمراعاة لمواقعها، صفت القلوب وأخلصت واجتمعت الكلمة وانتصرت.
وأما حقوق الرعية العشرة على السلطان
فالأول :
حماية بيضة الإسلام والذب عنها إما في كل إقليم – إن كان خليفة – أو في القطر المختص به إن كان مفوضاً إليه، فيقوم بجهاد المشركين، ودفع المحاربين والباغين وتدبير الجيوش و تجنيد الجنود وتحصين الثغور بالعدة المانعة، والعدة الدافعة، وبالنظر في ترتيب الأجناد في الجهات على حسب الحاجات وتقدير إقطاعهم، وأرزاقهم، وصلاح أحوالهم.
الحق الثاني :
حفظ الدين على أصوله المقررة وقواعده المحررة، ورد البدع والمبتدعين، وإيضاح حجج الدين، ونشر العلوم الشرعية، وتعظيم العلم وأهله، ورفع مناره ومحله، ومخالطة العلماء الأعلام، النصحاء لدين الإسلام ومشاورتهم في موارد الأحكام، ومصادر النقض والإبرام.
قال الله – تعالي – لنبيه ( (وشاورهم في الأمر (
قال الحسن : (( كان – والله – غنياً عن المشاورة ولكن أراد أن يستن لهم )).
الحق الثالث :
إقامة شعائر الإسلام كفروض الصلوات والجمع والجماعات والأذان والإقامة ،والخطابة، والإقامة، ومنه النظر في أمر الصيام والفطر وأهلته، وحج البيت الحرام وعمرته.
ومنه : الاعتناء بالأعياد وتيسير الحجيج من نواحي البلاد ،وإصلاح طرقها وأمنها في مسيرهم وانتخاب من ينظر أمورهم.
الحق الرابع :
فصل القضايا والأحكام بتقليد الولاة والحكام لقطع المنازعات بين الخصوم ،وكف المظالم عن المظلوم ولا يولي ذلك إلا من يثق بديانته وصيانته من العلماء والصلحاء، والكفاة ليعلم حال الولاة مع الرعية فإن مسئول عنهم ن مطالب بالجناية منهم.
قال رسول الله ( : (0 كل راع مسئول عن رعيته ))
الحق الخامس :
إقامة فرض الجهاد بنفسه وبجيوشه أو سراياه وبعوثه، وأقل ما يجب في كل سنة مرة، إن كان بالمسلمين قوة فإن دعت الحاجة إلي أكثر منه، وجب بقدر الحاجة ولا يخلي سنة من جهاد إلا لعذر، كضعف بالمسلمين – والعياذ بالله تعالي – واشتغالهم بفكاك أسراهم واستنقاذ بلاد أستولي الكفار عليها.
ويبدأ بقتال من يليه من الكفار إلا إذا قصده الأبعد فيبدأ بقتاله لدفعه.
الحق السادس :
إقامة الحدود الشرعية على الشروط المرعية، صيانة لمحارم الله عن التجرؤ عليها، ولحقوق العباد عن التخطي إليها ويسوى في الحدود بين القوي والضعيف والوضيع والشريف، قال رسول الله ( :
(( إنما أهلك من كان قبلكم : أنهم كانوا يقيمون الحدود على الوضيع ويتركون الشريف، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )).
الحق السابع :
جباية الزكوات والجزية من أهلها، وأموال الفيء والخراج عند محلها وصرف ذلك في مصارفه الشرعية وجهاته المرضية، وضبط جهات ذلك إلي الثقات من العمال.
الحق الثامن :
النظر في أوقاف البر والقربات وصرفها فيما هي له من الجهات وعمارة القناطر وتسهيل سبل الخيرات.
الحق التاسع :
النظر في قسم الغنائم وتقسيمها، وصرف أخماسها إلي مستحقيها.
الحق العاشر :
العدل في سلطانه وسلوك موارده في جميع شأنه، قال – تعالي - : ( أن الله يأمر بالعدل والإحسان. (
وقال – تعالي - : ( وإذا قلتم فاعدلوا (
وفي كلام الحكمة : عدل الملك حياة الرعية وروح المملكة، فما بقاء جسد لا روح فيه ؟ !
فيجب على من حكمه الله – تعالي – في عباده وملكه شيئاً من بلاده ن أن يجعل العدل اصل اعتماده ن وقاعدة استناده، لما فيه من مصالح العباد، وعمارة البلاد، ولأن نعم الله يجب شكرها، وأن يكون الشكر على قدرها، ونعمة الله على السلطان فوق كل نعمة، فيجب أن يكون شكره أعظم من كل شكر
وأفض ما يشكر به السلطان لله – تعالي - : إقامة العدل فيما حكمه فيه.
وقد اتفقت شرائع الأنبياء ن وآراء الحكماء والعقلاء، أن العدل سبب لنمو البركات ومزيد الخيرات ،وأن الظلم والجور سبب لخراب الممالك واقتحام المهالك ولا شك عندهم في ذلك ... )) ا هـ
--------------------------------------------------------------------------------
78 ) ينظر (( الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة )) للهيتمي ( 1/25 )
79 ) ( ص 5 )
80 ) (( سير أعلام النبلاء )9 ( 9/402 ).
81 ) (1/264 )
82 ) النساء:59
83 ) تقدم ص 20
84 ) ( 3/81 )
85 ) (( إرواء الغليل )) ( 8/106 )
86 ) ( 2/177 )
87 ) ( 8/63-64 )
88 ) ( 3/81 )
89 ) (( مسند الفاروق )) ( 2/651 )
90 ) (( العلل )) ( 2/151 )، وينظر : (( ميزان الاعتدال )) ( 3/378 ) للذهبي.
91 ) (( الحسبة )) ( ص 11 )
92 ) (( الأحكام السلطانية )) ( ص 19 )
93 ) (1/21 )
94 ) ( 13/187 )
95 ) ( 1/81 )
96 ) ( ص 2 ) .
97 ) الحج : 41
98 ) النور : 55
99 ) (( مجموع الفتاوى )) ( 28/262 )
100 ) سورة الأنعام : 38
101 ) النحل : 89.
102 ) نقلها ابن عقيل الحنبلي وفسرها كما في (0 بدائع الفوائد )) لابن القيم ( 3/152 ) .
103 ) (3/155-156) .
104 ) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام )) ( ص 61-71 )، وانظر حقوق الرعية في (( الأحكام السلطانية )) لأبي يعلى ( ص 19 ) حيث قال : (( ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء )).
105 ) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام )) ( ص 61-71 )، وانظر حقوق الرعية في (( الأحكام السلطانية )) لأبي يعلى ( ص 19 ) حيث قال : (( ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء )).