الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية
التحذير من الابتداع وبيان دخوله في العبادات والعادات
موضوع دخول البدع في (( العادات )) كدخولها في (( العبادات )9 ، له تعليق كبير بمسألتنا هذه .
ولذا فإني سأتكلم عن هذا الموضوع في إطار التمهيد للدخول في المسألة ، قم أبين وجوب الحذر من الوقوع في البدع عموماً في العبادات أو العادات ، فأقول :
البدعة : كل ترك أو فعل نية التعبد لله تعالى مما ليس في الدين هذا هو الضابط المختار الذي رجحه الشاطبي – رحمه الله تعالى - ، وصاغه بالصياغة الآتية فقال :
( البدعة : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ) ([18])
وهذا التعريف هو على رأي من قال بدخول الابتداع في الأمور العادية كدخوله في الأمور العبادية – ودخول البدع فيها إنما هو من جه ما فيها من التعبد لا بإطلاقه – وهذا هو الصحيح .
أما دخول الابتداع في الأمور العبادية فواضح .
وأما دخوله في الأمور العادية فقد شرح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - ، فقال بعد كلام سبق :
( فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به :
وهو : أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحاتٍ .
فأما إذا اتخذت واجباتِ والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس في المحرمات منها .
فلا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه الله .
ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به ، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه ، فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات والمحرمات ؟
إلى أن قال :
إذا كان المسلمين متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عملٍ ، إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسولهr . وذلك يعلم بالأدلة المنصوصة على ذلك .
وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال : أنه قربة وطاعة .
فكذلك هم متفقون على إنه قربة وطاعة .
فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله ، ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ، ولا عمله من الحسنات ، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول ، ولا بإرادة وعمل .
وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه ، بل يقال أنه جائز .
ولا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة .
ومعلوم ان اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد ، أو بهما ، أو بالقول أو بالعمل ، أو بهما : من أعظم المحرمات ، وأكبر السيئات .
وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصى وسيئات ([19])
وقد أيد الشاطبي – رحمه الله تعالى – القول بدخول البدع في العادات بحجج ، منها :
( أن الأمور العادية داخلة ضمن الخطاب الشرعي ، وضمن المعنى العام للعبادة . ولذلك فإن المباح أحد أقسام الحكم التكليفي ، لأنه إنما ثبت كونه مباحاً بالدليل الشرعي.
وقد تكرر أن كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع ) ([20])
ومنها أن : ( الأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة تكون عادية ، فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالبتداع في أحدهما تقع في الآخر ) ([21])
ومنها أن :
( أفعال المكلفين إما أن تكون من قبيل التعبديات ، وإما أن تكون من قبيل العادات والمعاملات .
وقد تقرر بالأدلة الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة تعبدٍ لكونه مقيداً بأوامر الشرع إلزاماً أو تخييراً أو إباحة.
وعليه : فالبدع تدخل في الأمور العادية من الوجه العبادي المتعلق بها ) ([22]). اهـ.
وهذا الذي قرره الشاطبي ، وعقد له باباً مستقلاً في كتابه (( الاعتصام )) ([23]) وهو الذي قامت عليه الأدلة وجاء عن السلف الصالح – y- .
فمن ذلك ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك – t – قال :
فمن ذلك ما رواه الشيخان عن انس بن مالك – t – قال :
جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبيr ، يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها . فقالوا وأين نحن من النبي r، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً .
وقال الآخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر .
وقال الآخر : أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً .
فجاء الرسول r فقال :
(( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
وفي لفظ لمسلم :
(( فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أنام على فراشٍ .. ) الحديث
ومن ذلك أيضاً – ما أخرجه البخاري عن ابن عباس y– قال :
بينما النبي r يخطب إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم فقال النبي r .
( مره فليتكلم ، وليستظل ، وليقعد ، وليتم صومه )).
قال شيخ الإسلام :
( فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها ، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء : فذلك من البدع المذمومة أيضاً ) ([24])
وقال – أيضاً على هذا الحديث : ( فأمره النبي r بالصوم وحده لأنه عبادة يحبها الله تعالى ، عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى ) ([25]) اهـ.
ومن ذلك – أيضاً – ما أخرجه البخاري عن قيس بن أبي حازم قال : دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب ، فرآها لا تتكلم . فقال ما لها لا تتكلم . قالوا : حجت مصمتة قال لها : تكلمي فهذا لا يحل فهذا من عمل الجاهلية .
قال الشاطبي تعليقاً علي قول الإمام مالك :
( فتأمل كيف جعل القيام في الشمس ، وترك الكلام ونذر المشي إلي الشام أو مصر معاصي ... مع أنها في أنفسها أشياء مباحات ، لكنه لما أجراها لما يتشرع به ويدان الله به صارت عند مالك معاصي لله ) ([26]) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - :
( إن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلي عبادة الله بدعة ) ([27]) اهـ.
فتقرر بذلك أن البدع تدخل في الأمور العادية والمعاملات كما تدخل في العبادات.
فترك أكل اللحم مباح . لكن إن قصد به القربة صار عمله بدعة ، إذ : ( لا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاده المبتدع مشروعاً وليس بمشروع ) ([28])
وكذلك لبس ثوباً بلون معينٍ ، فهذا مباح . لكن إن قصد القربة بذلك صار عمله بدعة ممقوتة .
وقد توافرت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف في ذم البدع والتحذير منها :
فمن الكتاب :
قول الله تعالى :
)هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ( (آل عمران:7)
وقد سألت عائشة – رضي الله عنها - ، رسول اللهr عن هذه الآية فقالr
(( إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )). رواه الشيخان .
وقد نص جماعة من الصحابة على أن الخوارج دخلون في عموم هذه الآية – كما جاء عن ابن عباس وأبي أمامة – مما يدل على أنها في أهل البدع .
ومن الآيات قوله تعالى :
) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( (الأنعام:153)
الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة.
والسبل هي : سبل أهل البدع الحائدين عن الصراط المستقيم .
يدل على ذلك ما ثبت عن ابن مسعود – t – قال : خط لنا رسول اللهr خطاً ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ، ثم قال :
(( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه )) وقرأ ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ..) الآية )) . رواه أحمد والنسائي والدارمي ، وصححه الحاكم في المستدرك ( 2/318 )
وأخرج أبو نعيم في (( الحلية )) ( 3/293 ) عن مجاهد – رحمه الله - ، أنه قال في قوله تعالى : ( ولا تتبعوا السبل ) :
(( البدع والشبهات ))
قال علي القارئ – رحمه الله - ، على حديث ابن مسعود :
( فيه إشارة إلى أن سبيل الله وسط وليس فيه تفريط ولا إفراط بل فيه : التوحيد والاستقامة ومراعاة الجانبين في الجادة .
وسبل أهل البدع مائلة إلى الجوانب ، وفيها : تقصير وغلو ،وميل وانحراف وتعدد واختلاف ) ([29]) .
ومن الآيات قوله تعالى :
) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النور: من الآية63)
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – :
( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون على رأي سفيان والله تعالى يقول : ) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( (النور: من الآية63)
أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك . لعله إذا رد بض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) أخرجه ابن بطة في (( الإبانة )) : ( 1/260).
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالي - : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره )
أي : أمر رسول اللهr ، وهو سبيله ومنهجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان .. فيحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً .
( أن تصبهم فتنة )
أي : في قلوبهم من كفرٍ أو نفاق أو بدعة ) ([30]) اهـ.
( أو يصيبهم عذاب أليم ) : أي : في الدنيا ، بقتلٍ أو حد أو حبس أو نحو ذلك .
* * *
أما الأحاديث عن رسول الله r في هذا الباب فكثيرة منها :
ما رواه الشيخان عن أنس – t – عن النبي r أنه قال :
(( من رغب عن سنتي فليس مني ))
ومنها م أخرجاه – أيضاً- عن عبد الله بن مسعود – t - ، قال : قال رسول اللهr :
(( أنا فرطكم علي الحوض ، وليختجلن رجال دوني ، فأقول يا رب أصحابي . فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )).
وعن جابر t – قال : قال رسول الله r:
(( أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ،وخير الهدى هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعةٍ ضلالة )).
رواه مسلم والنسائي ، زاد : (( وكل ضلالة في النار )) ، وسندها صحيح .
وروى مسلم في (( صحيحه )) عن أبي هريرة – t – قال : قال رسول الله r :
(( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، ولا ينقص من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) .
وفي حديث العرباض بن سارية – t- ، أن النبي r قال :
(( ... فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )). رواه أحمد وأبو داود .
* * *
أما الآثار عن السلف في هذا الباب فهي لا تحصى منها قول ابن عمر – رضي الله عنهما - :
(( خير الدين دين محمد r وشر الأمور محدثاتها . اتبعوا ولا تبتدعوا ، فإنكم لن تضلوا ما اتبعتم الآثر . إن تتبعونا فقد سبقناكم سبقاً بعيداً ، وأن تخالفونا فقد ضللتم ضلالاً بعيداً . وما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله عنهم سنة هدى ثم لا تعود فيهم أبداً ولأن أرى في ناحية المسجد ناراً تشتعل فيه احتراقاً ، أحب على من أن أرى بدعة ليس فيه لها مغير )).
أخرجه محمد بن نصر في كتاب (( السنة )) ( ص 24 ) .
وروى ابن بطة في (( الإبانة )) ( 1/339 ) عن معاذ بن جبل – t – أنه قال :
(( إياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلال )).
وفي (( السنة )) لمحمد بن نصر ( ص 24 ) عن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال :
(( عليكم بالاستقامة واتباع الأمراء والآثر ، وإياكم والتبدع ))
وأخرج اللالكائي ( 1/92 ) ، ومحمد بن نصر في (( السنة )) ( ص 24 )، والبيهقي في المدخل ( ص 180 ) ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما - ، أنه قال :
(( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ))
وأخرج البيهقي في (( السنن )) ( 4/316 ) عن ابن عباس – t - ، أنه قال :
(( إن أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع )).
وأخرج اللالكائي ( 1/132 ) عن سفيان الثوري ، أنه قال (( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، والمعصية يتاب منها ، والبدعة لا يتاب منها )) .
وجاء في ترجمة إبراهيم النخعي – رحمه الله – من كتاب الحلية لأبي نعيم ( 4/222 ) أنه سئل عن الأهواء ، فقال :
(( ما جعل الله فيها مثقال حبة من خردل من خيرٍ وما الأمر إلا الأمر الأول )).
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى - :
(( لأن يلقي الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك : خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء )) .
ذكره بهذا اللفظ البغوي في شرح السنة )) ( 1/271 )
وقال إمام أهل السنة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - :
(( أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله r والاقتداء بهم ،وترك البدع ،وكل بدعة ضلالة )).
أسنده ابن أبي يعلي في (( الطبقات )) ( 1/241 ) في ترجمة عبدوس بن مالك العطار .
--------------------------------------------------------------------------------
[18] ) (( الاعتصام )) ( 1/51) ، ط : دار ابن عفان .
[19] ) (( مجموع الفتاوى )) ( 11/450-452) .
[20] ) (( الاعتصام )) ( 1/60).
[21] ) (( الاعتصام )) (2/562 ) .
[22] ) ((.الاعتصام )) (2/570 )
[23] ) هو الباب السابع : في الابتداع وهو يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور لعبادية ؟ ( 2/561 ) ، ط دار ابن عفان .
[24] ) (( الفتاوى )) ( 11/200).
[25] ) ((الفتاوى )) ( 11/614) .
[26] ) (( الاعتصام ))، للشاطبي ( 2/534 ).
[27] ) (( الفتاوي ) ( 11/555).
[28] ) (( الاعتصام )).
[29] ) (( شرح المشكاة )) ( 1/411).
[30] ) (( شرح المشكاة )) ( 1/411).