الرافعي
محمود محمد شاكر
المصدر: المصدر: الرسالة، السنة الخامسة - العدد 202 - 1937
الرافعي
رحمةُ الله عليكَ! رحمةُ الله عليكَ!
رحمة الله لقلبٍ حزينٍ، وكبدٍ مَصدُوعة!
• • •
لم أَفْقِدكَ أيُّها الحبيبُ، ولكنِّي فقَدْتُ قَلْبي.
كنتَ لي أملاً أستمسكُ به كلَّما تَقَطَّعَتْ آمالي في الحياة.
كنتَ راحةَ قلبِي كلَّما اضطربَ القلبُ في العناء.
كنتَ اليَنْبُوعَ الرَّويَّ كلَّما ظَمِئَ القلبُ وأحرقه الصَّدَى.
كنت فجرًا يتبلَّج نورُهُ في قَلْبي، وتتنفس نسماته، فوَجدتُ قلبي إذ وجدتُ عَلاقتي بكَ.
لم أفقدْكَ أيُّها الحبيبُ، ولكنِّي فقدتُ قلبي.
• • •
جَزَعي عليك يُمسك لساني أن يقول، ويُرسلِ دمعي ليتكلَّم، والأحزانُ تجدُ الدمعَ الذي تذوب فيه لتهونَ وتضَّاءَل، ولكنَّ أَحزاني عليك تجد الدَّمع الذي تروَى مِنْه لتنموَ وتَنْتَشر.
ليس في قلبي مكانٌ لم يرفَّ عليه حبِّي لك وهوَايَ فيك، فليس في القلبِ مكانٌ لم يحرقْه حُزني فيك وجَزَعي عليك، هذه دموعي تُتَرجِم عن أحزانِ قلبي، ولكنَّها دموع لا تُحْسِنُ تَتَكَلَّم.
• • •
عشتُ بنفسٍ مُجْدِبة قد انصرفَ عنها الخَصْب، ثم رحمَ الله نفسي بزهرتين تَرِفَّان نضْرةً ورواءً، كنتُ أجدُ في أنفاسهما ثرْوة الروضة الممْرعة فلا أحسُّ فقرَ الجدْب.
أمَّا إحداهما فقد قطفتْها حقيقةُ الحياة، وأمَّا الأخرى فانتزعتْها حقيقةُ الموت، وبقيت نفسي مجدبةً تستشعِرُ ذُلَّ الفقر.
• • •
تحت الثرى: عليك رحمة الله التي وَسِعتْ كلَّ شيء، وفوق الثرى: عليَّ أحزانُ قلبي التي ضاقتْ بكلِّ شيء.
تحت الثرى: تَتَجدَّدُ عليكَ أفراحُ الجنَّة، وفوق الثرى: تتقادمُ عليَّ أحزان الأرض.
تحت الثرى: تتراءى لرُوحِك كلُّ حقائق الخُلود، وفوق الثرى: تتحقَّقُ في قلبي كلُّ معاني الموت.
لم أفقِدْك أيُّها الحبيب، ولكنِّى فقدتُ قَلْبي.
• • •
حضَرَ أَجلُك، فحضرتْني همومي وآلامي.
فبين ضلوعي مأتمٌ قد اجتمعت فيه أحزاني للبكاء؛ وفي رُوحي جنازة قد تَهَيَّأَت لِتَسير، وعواطفي تُشَيِّعُ الميِّتَ الحبيب مُطرِقة صامتة، والجنازة كلُّها في دَمِي، في طريقها إلى القبر وفي القلْب، في القلب تُحْفَرُ القبور العزيزة التي لا تُنْسَى.
• • •
في القلْب يجد الحبيب رُوحَ الحياة، وقد فَرَغ من الحياة، وتجد الرُّوح أحبابَها، وقد نأى جُثْمَانها.
في قلبي تجد الملائكةُ مكانًا طَهَّرَتْه الأحزانُ مِن رجس اللَّذات.
وتجِدُ أجنحتُها الروحَ الذي تهفهف عليه، وتتحفَّى به.
هنا في القلْب تتنزَّل رحمة الله على أحبابي وأحزاني، ففي القلْب تعيش الأرواحُ الحبيبة الخالدةُ التي لا تَفْنَى، وفي القلْب تُحْفَرُ القُبور العزيزة التي لا تُنْسَى.
• • •
لم تُبْقِ لي بَعدَكَ أيُّها الحبيب، إلاَّ الشوقَ إلى لقائك.
فقدتُكَ وَحْدِي إذ فقَدَك الناس جميعًا.
سَمَا بكَ فرحُك بالله، وقعدتْ بي أحزاني عليكَ.
لقد وجدتَ الأنْسَ في جوارِ رَبِّك، فوجدتُ الوحشةَ في جوار الناس.
لم أفقدْك أيُّها الحبيب، ولكنِّي فقدتُ قلبي.
لم تُبق لي بَعدَك إلاَّ الشوقَ إلى لقائك.
رحمةُ الله عليك، رحمةُ الله عليك!