3- المقدمة الخامسة:
لم أقف إلى الآن على حَدِيث صحيحٍ صريحٍ في مس النَّبِيّ امرأةً أجنبية( 1)، أو مس امرأة أجنبية النَّبِيّ -عدا ما ورد في حَدِيث أُمّ حَرَام وسيأتي الكلام على ذلك- بل قالت عائشة:((وما مست كف رسول الله كف امرأة قط))(2 ).
وقد يشكل على هذا حَدِيث هُشَيْم بن بَشير قَالَ: أخبرنا حُمَيْدٌ الطوِيل قَالَ: حدثنا أنسُ بنُ مَالِك قَالَ: كانَتِ الأمَةُ مِنْ إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ لِتَأْخُذُ بِيَدِ رسول الله فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ (3 ).
والجوابُ: مِنْ وجهين:
الأوّل: أن دلالة " لتأخذ بيد رسول الله" على المس غير بينة إذ ربما يراد بذلك الإشارة إلى غاية التصرف واللين، قَالَ ابن حَجَر:((والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل والأمة دون الحرة وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت وبقوله حيث شاءت أي من الأمكنة والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة))(4 )، وعلى كل حال هذه الدلالة معارضة بما هو أقوى وأصرح مما تقدم ذكره في المقدمة الثالثة.
الثاني: أنّ الحَدِيث نصّ على الإماء، ولا يخفى أنّ الإماء يفارقن الحرائر بأحكام كثيرة -فلا يخلو باب من أبواب الفقه - في الغالب - من ذكر الفروق بين الحرائر والإماء-، فملامسة الأمة أخف من ملامسة الحرائر، وكذلك النظر إليها وغير ذلك من الأحكام، وتبقى الحرائر على الأصل في تحريم المس.
قَالَ ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلوات، في الأمة تصلي بغير خمار (2/41) حدثنا وكيعُ بنُ الجراح، قَالَ:حدثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن أنس قَالَ: رأى عُمرُ أمةً لنا متقنعة فضربها وَقَالَ: لا تشبهي بالحرائر، وهذا إسنادٌ صحيح( 5).
قَالَ شيخُ الإسلامِ:((غناءُ الإماءِ الذي يسمعه الرجلُ قد كَانَ الصحابة يسمعونه في العرسات كما كانوا ينظرونَ إلى الإماء لعدم الفتنة في رؤيتهن و سماع أصواتهن))(6 ).
تنبيه:
أخرج:
-ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع (2/1398رقم4177).
-وأحمد بن حنبل في مسنده(3/174).
-وابن أبي الدنيا في التواضع والخمول(ص158 رقم 122).
-وأبو يعلى في مسنده (7/61رقم3982).
-وأبو الشيخ في أخلاق النَّبِيّ ، ما ذُكِرَ مِنْ حُسن خُلُق رسولِ الله (1/138، 140رقم26،27).
-وأبو نُعَيم في الحلية (7/202).
جميعهم من طرق عن شعبة بن الحجاج عن علي بن زيد عن أنس بنِ مَالِك قَالَ: إنْ كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في حاجتها.
قَالَ البوصيريُّ:((هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان))( 7)، قلتُ: لو قيل إنّ لفظة " فما ينزع يده من يدها" ضعيفة جداً، لضعف علي، ومخالفته حميداً الطويل لكان أدق في الحكم.
ومما قد يفهم منه المسيس حَدِيث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ ومالُه في الأرْضِ مِنْ مالٍ ولاَ مَمْلُوكٍ ولا شيْءٍ غَيْرَ ناضِجٍ وغيْرَ فَرَسِهِ فَكنْت أعْلِفُ فَرَسَهُ وأسْتَقِي المَاءَ وأخْرِزُ غَرْبَهُ وأعْجِنُ ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أخْبِزُ وكانَ يخْبِزُ جارَاتٌ لِي مِنَ الأنْصَارِ وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وكُنْتُ أنْقُلُ النَّوى مِنْ أرْضِ الزُّبَيْرِ الّتي أقْطَعَهُ رسولُ الله على رأسِي وهْيَ مِنِّي علَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْما والنَّوَى علَى رَأسِي فَلَقِيتُ رسولَ الله ومَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ فَدَعانِي ثُمَّ قَالَ: إخْ إخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فاسْتَحْيَيْتُ أنْ أسِيرَ مَعَ الرِّجالِ، وذَكَرْتُ الزُّبَيْر وغَيْرَتَهُ - وكانَ أغْيَرَ النَّاسِ - فَعَرَفَ رسولُ الله أنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزبَيْرَ فَقْلُتُ: لَقِيَنِي رسول الله وعلَى رأسِي النَّوَى ومَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أصْحابِهِ فأناحَ لأرْكَبَ فاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: والله لَحَمْلُكِ النَّوَى كانَ أشَدَّ عَليَّ مِنْ ركُوبِكِ مَعَهُ قالَتْ: حتَّى أرسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذالِكَ بِخادِمٍ يَكْفِيني سِياسَةَ الفَرَسِ فكأنما أعْتَقَنِي( 8).
والشاهد من الحَدِيث قوله:((فَدَعانِي ثُمَّ قَالَ: إخْ إخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ)) ربما يقول قائل: كيف يحملها خلفه، هي ليست محرماً له، وربما يحصل نوع مسيس؟.
و الجواب:
1- أنّ في دلالة مفهوم الحَدِيث احتمالا؛ قَالَ ابن حَجَر:((قوله:" ليحملني خلفه" كأنها فهمت ذلك من قرينة الحال، وإلا فيحتمل أنْ يكونَ أراد أنْ يركبها وما معها، ويركب هو شيئا آخر غير ذلك))( 9)، قلتُ: وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
2-على أنّ الإرداف أحياناً لا يستلزم المماسة قَالَ العظيم آبادي - تعليقاً على حَدِيثِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَتْ: جئتُ رسولَ الله في نسوةْ من بني غفار وفيه " وكنت جارية حديثا سني فأردفني رَسُولُ اللَّهِ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ فنزل إِلَى الصُّبْحِ فَأَنَاخَ، وإذا أنا بالحقيبة عليها أثر دَمٌ مِنِّي فَكَانَتْ أَوَّلُ حَيْضَةٍ حِضْتُهَا "( 10)-:((قَالَ ابن الأثير: الحقيبةُ هي الزيادة التي تجعل في مؤخر القتب انتهى، فالإرداف على حقيبة الرّحل لا يستلزم المماسة فلا إشكال في إردافه إياها))(11 ).
قالَ النَّوَوِيّ:((وَفِيهِ جَوَاز إِرْدَاف الْمَرْأَة الَّتِي لَيْسَتْ مَحْرَمًا إِذَا وُجِدَتْ فِي طَرِيق قَدْ أَعْيَتْ , لا سِيَّمَا مَعَ جَمَاعَة رِجَال صَالِحِينَ , وَلا شَكّ فِي جَوَاز مِثْل هَذَا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا خَاصّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلافِ غَيْره , فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْمُبَاعَدَةِ مِنْ أَنْفَاس الرِّجَال وَالنِّسَاء , وَكَانَتْ عَادَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاعَدَتهنَّ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّته, قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ خُصُوصِيَّة لَه لِكَوْنِهَا بِنْت أَبِي بَكْر , وَأُخْت عَائِشَة , وَامْرَأَة الزُّبَيْر , فَكَانَتْ كَإِحْدَى أَهْله وَنِسَائِهِ , مَعَ مَا خُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمْلَك لِإِرْبِهِ. وَأَمَّا إِرْدَاف الْمَحَارِم فَجَائِز بِلا خِلَاف بِكُلِّ حَال))( 12).
قلتُ: دعوى الخُصُوصِيَّة فيها نظرٌ فالحَدِيثُ ليس فيه خلوة، ولا نظر، ودلالة المماسة محتملة كما تقدم، فلا يصح الاستدلال به على الخُصُوصِيَّة، واللهُ أعلم.