باب علامات الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن (1) ، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعراً منه: [من الطويل]
فليس لعيني عند غيرك موقف ... كأنك ما يحكون من حجر البهت (2)
__________
(1) بعض هذه العلامات قد نقله الحنبلي عن ابن حزم؛ انظر مجلة الأندلس (1951) ص: 327؛ وورد مثله في ديوان الصبابة: (10، 12، 13) وما بعدها، وقارن بما ذكره الوشاء من علامات (الموشى: 48، 51، 52) أما ابن القيم في روضة المحبين (262 وما بعدها) فقد تصرف بعبارات ابن حزم، ومثال ذلك قوله: فمنها ادمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه، فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن ضمائره والكاشفة لأسراره فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف دار، ويجول معه في النواحي والأفكار ومنها الاقبال على حديثه والقاء سمعه كله إليه يفرغ لحديثه سمعه وقلبه، وان ظهر منه إقبال على غيره فهو اقبال مستعار يستبين فيه التكلف لمن يرمقه ومنها البهت والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب أو عند سماع ذكره، ولا سيما إذا رآه فجأة أو طلع عليه بغتة ومنها بذل المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة والتفرد عن الناس الخ: قلت: رغم اعتماد ابن القيم على ما جاء في طوق الحمامة، فإنه يستنكر هذا النوع من الحب الذي يحمل هذه العلامات ويعده حباً حيوانياً.
(2) حجر يوجد في ساحل المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) وهو مشهور عند أهل المغرب الأقصى، ويباع الحجر منه بقيمة جيدة لا سيما في بلاد لمتونة، وهم يحكون عن هذا الحجر أن من أمسكه وسار في حاجة قضيت له بأوفى عناية، وهو جيد عندهم في عقد الألسنة على زعمهم (الادريسي: صفة المغرب وأرض السودان، تحقيق دوزي ودي خويه، ليدن 1969 ص: 28 - 29 وانظر ملحق المعجمات العربية لدوزي مادة " بهت " ).
(1/103)
--------------------------------------------------------------------------------
أصرفها حيث انصرفت وكيفما ... تقلبت كالمنعوت في النحو والنعت ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد (1) يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه؛ والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو انه عين المحال وخرق العادات؛ وتصديقه وإن كذب؛ وموافقته وإن ظلم؛ والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول؛ ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه؛ والتعمد للقعود بقربه والدنو منه؛ واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته؛ والتباطؤ في المشي (2) عند القيام عنه؛ وفي ذلك أقول شعراً: [من الخفيف]
وإذا قمت عنك لم أمش إلا ... مشي عان يقاد نحو الفناء
في مجيئي إليك أحتث كالبد ... ر إذا كان قاطعاً للسماء
وقيامي إن قمت كالأنجم العا ... لية الثابتات في الإبطاء ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغتة؛ ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع اسمه فجأة. وفي ذلك أقول قطعة منها: [من الطويل]
__________
(1) يقرؤها برشيه: بما لا يكاد، ولا أرى داعياً لتغييرها.
(2) في طبعة بتروف: والتباطؤ في الشيء، وتابعته طبعات أخرى؛ والمشي يؤكده قوله في الشعر: وإذا قمت عنك لم امش إلا/ مشي عان البيت؛ وكذلك وردت " المشي " في ديوان الصبابة والحنبلي.
(1/104)
--------------------------------------------------------------------------------
إذا ما رأت عيناي لابس حمرة ... تقطع قلبي حسرة وتفطرا
غدا لدماء الناس باللحظ سافكاً ... وضرج منها ثوبه فتعصفرا ومنها أن يجود المرء يبذل كل ما كان يقدر عليه مما كان يمتنع (1) به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه؛ فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تظرف، وجاهل تأدب، وتفل (2) تزين، وفقير تجمل، وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تهتك.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه، وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذ فحينئذ ترى الحديث سراراً، والإعراض عن كل من حضر إلا عن المحبوب جهاراً. ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات، منها: [من البسيط]
أهوى الحديث إذا ما كان يذكر لي ... فيه ويعبق لي عن عنبر أرج
عن قال لم أستمع ممن يجالسني ... إلى سوى لفظه المستظرف الغنج
ولو يكون أمير المؤمنين معي ... ما كنت من أجله عنه بمنعرج
فإن أقم عنه مضطراً فإني لا ... (3) أزال ملتفتاً والمشي مشي وجي
عيناي فيه وجسمي عنه مرتحل ... مثل ارتقاب الغريق البر في اللجج
أغض بالماء إن أذكر تباعده ... (4) كمن تثاءب وسط النقع والرهج
وأن تقل ممكن قصد السماء أقل ... نعم وإني لأدري موضع الدرج
__________
(1) في طبعة بتروف: ممتنع؛ وهو خطأ من حيث الاعراب، والاقرب أن يقرأ " يمتنع " بدلاً من قراءته " ممتنعاً " .
(2) يقترح الأستاذ غرسيه غومس أن تقرأ " وتفر " (الترجمة الاسبانية: 107، الحاشية: 2)، وهو تخريج بعيد، والتفل هو الذي ترك استعمال الطيب، وهذا هو الذي يستدعي " التزين " .
(3) الوجي: الذي يجد وجعاً في قدمه.
(4) الرهج: الغبار؛ وهو كالنقع، وأما " الوهج " عند برشيه وغيره فلا معنى له في هذا المقام.
(1/105)
--------------------------------------------------------------------------------
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل بصر: الانبساط الكثير الزائد [في المكان الضيق] (1) والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالأتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة والأسباب المحركة والخواطر المهيجة. والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام. فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً كثر تهاجرهما (2) بغير معنى، وتضادهما في القول تعمدا، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه.
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومحاربة (3) التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين
__________
(1) ما بين معقفين زيادة لاحداث شيء من التطابق في العبارتين " الانبساط في المكان الضيق، والتضايق في المكان الواسع " والزيادة من وضع برشيه، ولم ترد عند الحنبلي فيما نقله عن ابن حزم؛ مما حدا بغرسيه غومس أن يعدها نزوة من المحقق.
(2) تهاجرهما: تعرضت اللفظة لتصحيف طريف في مختلف الطبعات فجاءت " بهما جدهما " ، والتهاجر ليس هجرة، ويقول ابن حزم بعد قليل " والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء الخ " .
(3) المحاربة: تبادل الاحراج وهو إثارة التضايق بالمماحكة؛ وفي بعض الطبعات " المخارجة " - بالخاء المعجمة - ولا أراه يصح هنا.
(1/106)
--------------------------------------------------------------------------------
قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تقدره يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب ألبتة ولا تتمار في أن بينهما سراً من الحب دفيناً، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكاف (1) في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيته كثيراً.
ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي (2) سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف ان يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم (3) . فلو أمكن المحب ألا يكون حديث في مكان فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه.
ويعرض للصادق المودة ان يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت ما يهتاج له ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجى في المرئ، وهكذا في الماء، وفي الحديث، فإنه يفاتحكه مبتهجا، فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب، فتستبين
__________
(1) التكافي في المودة أمر يكرره ابن حزم مراراً في هذه الرسالة؛ ومن العجيب أن تظل الكلمة في مختلف الطبعات " تكلف " .
(2) يريد برشيه أن يقراها " يستحلي " وهي قراءة جيدة، ولكن لا ضرر من بقاء " يستدعي " .
(3) هو حديث شريف، عند أبي داود(أ د ب: 116) وفي مسند ابن حنبل 5: 194، 6: 450 وانظر محاضرات الراغب 2: 49 والموشى: 61 وجمهرة العسكري 1: 356 والميداني 1: 132 والمستقصي: 201 والحيوان 4: 386 وفصل المقال: 320 وبهجة المجالس 1: 808 وديوان الصبابة: 10 وروضة المحبين: 20.
(1/107)
--------------------------------------------------------------------------------
الحوالة (1) في منطقه، والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانغلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال.
ومن علاماته حب الوحدة، والأنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حر (2) يكون فيه، ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي؛ دليل لا يكذب، ومخبر لا يخون عن علة (3) في النفس كامنة.
والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا انهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل؛ وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر وأنه يتوسم بالعلامات: [من الوافر]
تعلمت السحائب من شؤوني ... فعمت بالحيا السكب الهتون
وهذا الليل فيك غدا رفيقي ... بذلك على سهري معيني
فإن لم ينقض الإظلام إلا ... [إذا] ما أطبقت نوماً جفوني
فليس إلى النهار لنا سبيل ... وسهد زائد في كل حين
كأن نجومه والغيم يخفي ... سناها عن ملاحظة العيون
ضمير في ودادك يا منايا ... فليس يبين إلا بالظنون
__________
(1) الحوالة: يريد بها الانتقال من حال إلى أخرى، والتغير، وقد استعملها ابن قزمان في أحد أزجاله (رقم: 78) فقال:
ولابد للخبز من فرن إذا ما اختمر ... إن لم يعتريه حواله ويفرن فطير ويفرن: بمعنى يخبز في الفرن؛ (وإلى هذا أشار الدكتور عبد العزيز الأهواني، انظر مجلة المعهد المصري، المجلد: 18(1974 - 1975) ص: 72.
(2) وردت في الطبعات المختلفة (ما عدا برشيه): حد، ولا معنى لها؛ والحر كان يقترن بالتحول عند علماء الطب، كما ان كثرة الشحم تقترن بالبرد، قال علي بن ربن الطبري (وفي فردوس الحكمة: 84) نقلاً عن جالينوس: " ومما يدل على حرارة المزاج ويبسه نحافة البدن ويدل على برد المزاج ورطوبته كثرة الشحم " ..
(3) في معظم الطبعات: كلمة، وعند برشيه: كله؛ وكلاهما خطأ واضح.
(1/108)
--------------------------------------------------------------------------------
وفي مثل ذلك قطعة منها: [من الكامل]
أرعى النجوم كأنني كلفت أن ... أرعى جميع ثبوتها والخنس
فكأنها والليل نيران الجوى ... قد أضرمت في فكري من حندس
وكأنني أمسيت حارس روضة ... خضراء وشح نبتها بالنرجس
لو عاش بطليموس أيقن أنني ... أقوى الورى في رصد جري الكنس والشيء قد يذكر لما يوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله " فكأنها والليل " في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة أوردها وهي: [من الطويل]
مشوق معنى ما ينام مسهد ... بخمر التجني ما يزال يعربد
ففي ساعة يبدي إليك عجائباً ... يمر ويستحلي ويدني ويبعد
كأنه النوى والعتب والهجر والرضى ... (1) قران وأنداد ونحس وأسعد
رثى لغرامي بعد طول تمنع ... وأصبحت محسوداً وقد كنت أحسد
نعمنا على نور من الروض زاهر ... سقته الغوادي فهو يثني ويحمد
كأن الحيا والمزن والروض عاطراً ... دموع وأجفان وخد مورد ولا ينكر علي منكر قولي " قران " فأهل المعرفة بالكواكب يسمون التقاء كوكبين في درجة واحدة قراناً.
ولي أيضاً ما هو أتم من هذا، وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد في هذه القطعة وهي: [من الطويل]
خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل مذ مد ما انبلج (2)
__________
(1) قرأ برشيه: كأن الهوى قران وأنواء؛ والبيت كما هو مقبول دون تغيير.
(2) مذ مد ما انبلج: هذه هي القراءة التي أختارها؛ وفي بعض الطبعات: قد مد وانبلج وهو كلام متناقض؛ لأن " انبلج " تعني أسفر وأشرق؛ وقرأ برشيه: قد مد واتلج؛ والاتلاج: الولوج والدخول، وهي قراءة فيها شطط.
(1/109)
--------------------------------------------------------------------------------
فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
كأني وهي والكاس والخمر والدجى ... ثرى وحيا والدر والتبر والسبح فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على اكثر منه، إذ لا يحتمل العروض ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.
ويعرض للمحب القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاء من يحب فيعرض عند ذلك حائل.