- 12 -
باب طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يري أنه عزهاة (1) خلي.
ويأبى السر الدفين (2) ، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين (3) ، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال.
وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن ان يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صافت أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا الوجه بصحيح (4) ، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة؛ وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤثر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها. ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في
__________
(1) العزهاة: العازف عن النساء واللهو.
(2) بتروف وغيره (ما عدا برشيه): الدقيق.
(3) قارن هذا بما في الموشى (ص: 48) ولن يخفى المحب وإن تستر، ولا ينكتم هواء وإن تصبر.
(4) في معظم القراءات: وما هذا وجه التصحيح.
(1/144)
--------------------------------------------------------------------------------
فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين؛ وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة؛ وفي ذلك أقول: [من الطويل].
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى ... وسيان عندي فيك لاح وساكت
يقولون جانبت التصاون جملة ... وأنت عليم (1) بالشريعة قانت
فقلت لهم هذا الرياء بعينه ... صراحاً وزيي للمرائين ماقت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد ... وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محركاً اتقي به ... مجيئي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لائم ... سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اختياره ... وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامت خبر:
وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه (2) وقبحه، إلى ان كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى، واصفر لونه، وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه قلقاً واسترعى (3) ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل؛ ففي ذلك أقول شعراً منه: [من البسيط].
__________
(1) معظم القراءات: عليهم.
(2) نجهه: رده رداً قبيحاً.
(3) معظم القراءات: فلقد استدعى.
(1/145)
--------------------------------------------------------------------------------
ما عاش إلا لأن الموت يرحمه ... (1) مما يرى تباريح الضنى فيه وأنا أقول: [من الهزج].
دموع الصب تنسفك ... وستر الصب ينهتك
كان القلب إذ يبدو ... (2) قطاة ضمها شرك
فيا أصحابنا قولوا ... فغن الرأي مشترك
إلى كم ذا أكاتمه ... ومالي عنه مترك وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان والتصاون، لطبع المحب وغلبته (3) ، فيكون صاحبه متحيزاً بين نارين محرقتين، وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع؛ وفي ذلك أقول: [من المتقارب].
درى الناس أني فتى عاشق ... كئيب معنى ولكن بمن
إذا عاينوا حالتي أيقنوا ... وإن فتشوا رجموا (4) في الظنن
كخط يرى رسمه ظاهراً ... وإن طلبوا شرحه لم يبن
كصوت حمام على أيكة ... يرجع بالصوت في كل فن
تلذ (5) بنجواه أسماعنا ... ومعناه مستعجم لم يبن
يقولون بالله سم الذي ... نفى حبه عنك طيب الوسن
__________
(1) واضح أن البيت وحده لا يمثل لب المعنى الذي تدور عليه الفقرة السابقة، فلعل أبياتاً أسقطها الناسخ كانت تفي بذلك.
(2) تشبيه القلب بالقطاة، من الصور التي نتردد في أشعار العذريين، من ذلك قول قيس ليلى:
كان القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فأضحت ... تقلبه وقد علق الجناح (3) برشيه: طبع الكتمان لطبع الحب وغلبته (وسقطت لفظة التصاون).
(4) بتروف وغيره (ما عدا برشيه): رجعوا.
(5) بتروف والصيرفي ومكي: بفحواه، برشيه: بنوحه.
(1/146)
--------------------------------------------------------------------------------
وهيهات دون الذي حاولوا ... ذهاب العقول وخوض الفتن
فهم أبداً في اختلاج الشكوك ... بظن كقطع وقطع كظن وفي كتمان السر أقول قطعة منها: [من البسيط].
للسر عندي مكان لو يحل به ... حي إذاً لا اهتدى ريب المنون له
أميته وحياة السر ميتته ... كما سرور المعنى في الهوى الوله وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
خبر:
ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة تغزل فيه بصبح (1) أم المؤيد رحمه الله، فغنت به جارية أدخلت على المنصور بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها.
خبر:
وعلى مثال هذا قتل أحمد بن مغيث، واستئصال آل مغيث (2) والتسجيل عليهم ألا يستخدم بواحد منهم أبداً حتى كان سبباً لهلاكهم وانقراض بيتهم فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سبب ذلك تغزله بإحدى بنات الخلفاء، ومثل هذا كثير (3) .
__________
(1) مر التعريف بها فيما تقدم ص: 91.
(2) ينتسبون إلى مغيث الرومي فاتح قرطبة، وكان مع طارق، وقد نجبوا في قرطبة وسادوا وعظم بيتهم وتفرعت دوحتهم وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن الداخل (النفح 3: 12) وانظر صفحات أخرى متفرقة) ومنهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث الذي كان حاجباً للحكم الربضي، كما كان أخوه عبد الملك من قواد الأمير هشام الرضى (الحلة 1: 135).
(3) يقص صفي الدين الحلي قصة مماثلة ذات لون أسطوري عن وشاح مغربي عشق رميلة أخت عبد المؤمن الأموي [كذا] ملك الاندلس، ونظم فيها موشحة تسمى " العروس " وكان أن قتله الخليفة لذلك (العاطل الحالي: 14 - 15).
(1/147)
--------------------------------------------------------------------------------
ويحكى عن الحسن بن هانئ (1) أنه كان مغرماً بحب محمد بن هارون المعروف بابن زبيدة، وأحس منه ببعض ذلك فانتهزه على إدامة النظر إليه، فذكر عنه أنه كان لا يقدر ان يديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر على محمد.
وربما كان سبب الكتمان ألا ينفر (2) المحبوب أو ينفر به. فإني أدري من كان محبوبه له سكناً وجليساً، لو باح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه " مناط الثريا قد تعلت نجومها " ؛ وهذا ضرب من السياسة. ولقد كان يبلغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغاية وأبعد النهاية، فما هو إلا ان أباح إليه بما يجد فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الانبساط ووقع التصنع والتجني، فكان أخاً فصار عبداً، ونظيراً فعاد أسيراً، ولو زاد في بوحه شيئاً إلى أن يعلم خاصة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولا نقطع القليل والكثير، ولعاد ذلك عليه بالضرر.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان. وربما كان من أسباب الكتمان ان يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً، ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو ليريهم ومن يجب هوان ذلك عليه.
__________
(1) الحسن بن هانئ أبو نواس ( - 198)؛ وقد ألمح ابن خلكان (2: 99) إلى شيء مما يذكره ابن حزم هنا.
(2) برشيه: يشهر.
(1/148)
--------------------------------------------------------------------------------