الموريسكيون و صناعة الشاشية
تعتبر صناعة الشاشية على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي من أهم مميزات الإيالة التونسية في الفترة الحديثة(1) وبالتحديد طيلة القرنين17 و 18 لتدخل في القرن 19 في أزمة حادة نتيجة المنافسة الخارجية(2) فقد كانت الشاشية السلعة التصديرية الأولى في البلاد وتشغل عددًا هامًا من اليد العاملة ليس في العاصمة فحسب بل كذلك في القرى والأرياف كالبطان و زغوان(3)، فقد قدرت "لوساتي فالنسي" عدد العاملين في صناعة الشاشية بكل مراحلها بين 15000 و 80000 عاملاً(4).
أما الإنتاج فقد كان بدوره هامًا قُدر بنحو مليون ومائتي ألف قطعة في السنة(5) تصدرُ أغلبها إلى الخارج كتركيا وإيران و مصر و المغرب و حتى بلغاريا و إفريقيا السوداء(6).
إذن وإن يتفق غالبية المؤرخين على أهمية صناعة الشاشية و دورها في اقتصاد الأيالة التونسية إلا أنهم يختلفون حول أصولها، هل هي محلية أم جلبها الأندلسيون معهم، و لكن يبدو أن أصل هذه الصناعة يعود إلى بلاد شاش(شاشي) في خرسان و فد ظهرت مع مجموعة من الجنود الخراسانيين الذين فتحوا القيروان في حملة عقبة بن نافع سنة670م فأصبحت تصنع في سوق القيروان وتعرف بأسم الشاشية القيروانية، ولعل الظروف التي عرفتها البلاد من حروب و مجاعات على مر السنوات هي التي جعلت العديد من حرفي و معلمي هذه الصنعة يغادرون البلاد باتجاه المغرب و الأندلُس، لتظهر أسواق الشاشية بفاس وغرناطة وقرطبة و طليطلة محققةً ازدهارا و تطورًا كبيرًا(7).
من هنا يمكننا القول أن صناعة الشاشية كانت موجودة في تونس قبل توافد الأندلسيين ولكن حُضورهم أعطى دفعًا جديدًا لهذه الصناعة فنهضوا بها وطوروها(1) و طبعوها بنمطهم الخاص(2)، وتمكنوا شيئًا فشيئًا من السيطرة على كافة مراحل الصنعة التي تبدأ بعملية التلبيد في طبربة ثم توجه إلى أندلسي تونس لكربلتها مُستخدمين في ذلك الكرضون الذي ينتجه أندلسيي العالية، ثم توجه إلى زغوان لصبغها بمياه العيون الصافية ثم تعاد مرة أخرى إلى تونس لمُعالجتها بالكرضون و القالب و ما إلى ذلك حـتى تصبح جاهزة للتسويق و كلُ ذلك يتم تحت أشرف "المعلم" القار بتونس(3)، ونذكر من بين هؤلاء المعلمين "البصير التاكي" و "الطيب كردينال(كرندال)" من عائلة "ويشكا" و الذي خبأ بعض آلات صناعة الشاشية في السفينة التي حملته من الأندلس إلى تونس ، وقد منحه "عثمان باي" أرضًا وطلب منهَ أن ينقل معارفه و تقنياته إل حرفي تونس(4).
إذن منذ أن أستقر الموريسكيون بتونس بداية القرن 17 انهمكوا في حرفة الشاشية فعُرفوا بها و عُرفت بهم وهذا ما يظهر في الوثائق التجارية لقُنصل فرنسا في الحاضرة في أواسط القرن 17، فتظهر أسماء "علي الشريف" و "محمد فكار(فكير)" كمعلمين للشواشين، أيضًا يظهر في نهاية القرن شيخ الأندلس "سيدي حماد" كمصنع وتاجر للشاشية، وهذا الدور الأخير أي التجارة في الشاشية لعبهُ العديد من الأندلسيين "كيوسف سنمار" و "أسطا محمد" ليس فقط في التجارة الداخلية بل كذلك في التجارة العالمية، كما لعب بعض الأندلسيين دور الممون لأسواق الشاشية بالمواد الأولية فبعد الطرد مباشرةً سنة 1614 برز شيخ الأندلس "خوان بيراث" والذي غير أسمه إلى "مصطفى كردناس" كممون للأسواق بالصوف كما لعب هذا الدور نفسه "ألونسو كوابس" سنة 1616(5).و يظهر هذا الدور الهام و المتميز للأندلسيين في صناعة الشاشية كذلك في كتابات "فرنشيسكو خيميناث" رجل الدين و المسئول عن المستشفى المسيحي في تونس بين سنة 1720 وسنة1735 فهو يؤكد على ثراء تجار الشاشية و نفوذهم الاقتصادي و السياسي الكبير خصوصًا في ظل الدولة الحُسينية(6) ففي العديد النصوص يربط "خيميناث" بين ثراء الأندلسيين و اشتغالهم بصناعة الشاشية ففي حديثه عن "مينداس الأندلسي" يقول:"هو غني جدًا ويملُك دكانًا لصناعة الشاشية"(7)، كذلك يقول في الكتاب الذي ألفه بعد عودته إلى أسبانيا حول المستشفى المسيحي بتونس:"هناك العديد من الصناعات القطنية و الصوفية و أحسن القبعات الحمراء(الشاشية)، و العديد من العاملين في هذه الصناعة هُم من الموريسكيين الذين خرجوا من أسبانيا بعد عملية الطرد"(1)، ولعل البحث الفيولوجي الذي قام به "بول تيسي" و الذي أثبت من خلاله أن ما يُقارب 46كلمة ذات أصل أسباني تُستعمل في اللغة المُتداولة في صناعة الشاشية يُؤكد مرة أخرى سيطرة الأندلسيين على هذه التجارة(2).