شارع بن عاشور بمدينة طرابلس/ ليبيا
يُطِل مبنى المقر الرئيس للمدارس على شارع "بن عاشور" بكامل واجهته، أما من الخلف فيطل جزئياً على زقاق متفرع من هذا الشارع هو زقاق "الخوجة"، لكن شارع "بن عاشور" هذا على درجة من العراقة بحيث تفاجئ الكثير من سكان مدينة طرابلس أنفسهم الجاهلين بتاريخ مدينتهم حينما يسمعون للمرة الأولى قصة هذا الشارع! وقد شاءت الصدف لوحدها أن يتم سرد قصة هذا الشارع للمرة الأولى في هذا الموقع في دراسة قمت بها شخصياً، و بالتالي لا وجود لمثيل لها في أي مصدر، إذ أنني لم أنشر هذه الدراسة في أي مكان غير هذا المكان:
سنة 1048 م أعلن والي دولة الفاطميين على ولاية أفريقيا "المعز بن باديس" من عاصمة ولايته "القيروان" استقلاله عن الدولة، وكانت في ذلك الوقت عدة قبائل من العرب البدو المستقرة حديثاً في دلتا النيل تثير الكثير من المشاكل قرب العاصمة الجديدة "القاهرة"، ففكر الحاكم الفاطمي آنذاك "المنتصر بالله" أن يهب هؤلاء البدو ولاية أفريقيا، فيتخلص من مشاكلهم من ناحية، ويخرب بواسطتهم الولاية التي يريد المعز أن يفصلها عن الدولة!
وتقول لنا المصادر التاريخية أن هذه الخطة نجحت، لقد فشل المعز بن باديس في صد هذه القبائل، وصارت هجرتهم إلى شمال أفريقيا تعرف بـ "الهجرة الهلالية" بزعامة الأسطورة - "أبو زيد الهلالي"، لكن لم يكن أحد يتوقع أن هذه الهجرة وضعت أساس التوزيع السكاني الحالي للمغرب العربي، فغالبية سكانه العرب اليوم ليسو إلا أحفاد قبيلتي بني سليم وبني هلال، من أحفاد بني سليم ما عرف بقبيلة أولاد دَبَّاب، التي انحدر منها أولاد سالم، أحدهم "علوان"، الذي شكَّل أحفاده ما يعرف اليوم بـ "العلاونة"
حتى أوائل هذا القرن كان "العلاونة" يسكنون شرق طرابلس الغرب بقليل، في خيام ينتقلون بواسطتها للرعي والزراعة الموسمية، لكن كشبه بدو، إذ لا يخرجون من منطقة محدودة، لدرجة أن عرفت باسمهم، و صارت أيام الاحتلال الإيطالي (1911-1943) محلة باسمهم
سكن هذه المحلة أقوام أخرى أخذت اسم "علوان" بحكم سكنهم للمنطقة، إلا أن أولاد سعيدة والرخصة والمجاربة و أولاد الحاج هم الوحيدين الذي يعدون علاونة حقيقيين، إنحدر من أولاد الحاج العديد من العائلات : الأشهب، الفضول، رزق، وأولاد بن عاشور، نسبة لجدهم عاشور، الذين كانوا - كعادة البدو شبه الرحل - يملكون أراضي، لكنهم لا يأتون إليها إلا وقت الجني، أما باقي السنة فيظل فيها فلاح وعائلته يشتغلون بها بالربع أو بالثمن حسب الاتفاق
كانت مزارع أولاد بن عاشور موزعة ما بين منطقة زناتة[1] وجامع سيدي عبد الغني، وحينما يسأل العاشوري المقيم بزناتة المتجه غرباً لزيارة أحد أقاربه بمنطقة جامع سيدي عبد الغني "إلى أين أنت ذاهب؟" يجيب باختصار: "إلى بن عاشور" قاصداً قريبه الذي يعرف اسمه السائل والمسئول
بتوالي الأيام ظل ذات الجواب يكرر في كل مرة يريد أحد عواشير زناتة زيارة أحد أبناء عمه قرب جامع سيدي عبد الغني، و من الطبيعي أن تزال أملاك بن عاشور مع الوقت بالوفاة أو البيع أو الحجز، فنسي الناس أبناء عاشور وسبب التصاق اسمهم بهذا الشارع، لكن الشارع ظل الوحيد الذي يذكرهم حتى هذه اللحظات[2]
في وثيقة وقف[3] تعود لسنة 1728 م إتضح أن شارع بن عاشور مذكور فيها كأحد حدود قطعة أرض، وهذا يعني أن هذا الشارع معروف منذ 270 سنة على أقل تقدير، أي منذ عهد "أحمد الكبير"، مؤسس وأول حكام دولة أسرة القرمانلي، التي حكمت ليبيا تحت اسم "باشاوية طرابلس الغرب" كدولة ذات حكم ذاتي موسع تحت سلطة اسمية للسلطنة العثمانية من1711 م إلى 1835م، مما يعني أن "شارع بن عاشور" - بخلاف ما يعتقد الكثيرون - ليس اسماً جديداً
· حدوده التاريخية
حتى بدايات الاحتلال الإيطالي لليبيا (1911-1943) - حينما تغيرت معالم مدينة طرابلس الغرب جذرياً - كان هذا الشارع يبدأ من الغرب مما كان يعرف بزنقة الحُرَّان وينتهي بما كان يعرف بدكاكين بن هاشم و حوش العبيد
à زنقة الحُرَّان
هي الآن جزء شارع النصر الذي يبدأ من تقاطعه بشارع أول سبتمبر وينتهي عند تقاطعه مع شارع خالد بن الوليد في حي الضهرة[4] (تابع الخريطة المرفقة)، كانت هذه الزنقة رملية لدرجة أن يصعب على العربات التي تجرها الدواب عبورها، وسرعان ما سنكتشف علاقة هذه الصعوبة باسم الزنقة حينما نعرف أن امتناع الدواب عن السير يعرف لغوياً بالحران! شارع بن عاشور العتيق كان يبدأ من هذه الزنقة، بالضبط من نقطة تقاطعها مع شارع "باندونج" الحالي
à دكاكين بن هاشم و حوش العبيد
هذه هي نهاية شارع بن عاشور التاريخية[5]، إنها دكاكين لأحد أبناء عائلة "هاشم" كانت مبنية في المثلث الذي يلتقي فيه شارع بن عاشور بالشارع المؤدي إلى منطقة الهاني، وحيث يبدأ شارع زناتة[6]، ولازال الكثير من سكان زناتة اسم عائلتهم "بن هاشم "، لكن من المؤسف أن صاحب الدكاكين ذاته لا تتوفر حوله أي مصادر منشورة، لقد ظلت هذه الدكاكين ببنائها الطيني حتى سبعينيات هذا القرن[7] حينما هدمت وبني بدلها "دكان زجَّاج" القائم حالياً
أما حوش العبيد (بيت الزنوج) فهو بيت كان ملاصق لهذه الدكاكين، ومن المؤسف أنه أيضاً لا تتوفر حولهم أي مصادر منشورة، أما موقعه الحالي فهو أرض فضاء