رد الشيخ الفوزان على البوطي
نظرات وتعقيبات على ما في كتاب "السلفية" لمحمد سعيد رمضان من الهفوات
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد...
فقد اطلعت على كتاب من تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي" فاستغربت هذا العنوان لما يوحي به من إنكار أن يكون للسلف مذهب ومنهج تجب علينا معرفته والتمسك به وترك المذاهب المخالفة له ولما قرأت الكتاب وجدت مضمونه أغرب من عنوانه حيث وجدته يقول فيه إن التمذهب بالسلفية بدعة ويشن حملة على السلفيين، ونحن نتساءل هل الذي حمله على أن يشن هذه الحملة التي تناولت حتى القدامى منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هل الذي حمله على ذلك كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك؟ كلا ليس الحامل له كراهية البدع لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا من البدع يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة، ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بدعة فاتضح لنا. والله أعلم أن الحامل له شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامى اليوم وهي لا تتلائم مع منهج السلف وقد ناقشت في هذه العجالة الآراء التي أبداها في كتابه المذكور حول السلفية والسلفيين وذلك من خلال التعقيبات التالية وهي تعقيبات
مختصرة تضع تصورا لما يحتويه كتابه من آراء هي محل نظر وإذا كان الدكتور يعني بحملته هذه جماعة معينة فلماذا لا يخصها ببيان أخطائها دون أن يعمم الحكم على جميع السلفيين المعاصرين وحتى بعض السابقين.
والآن إلى التعقيبات:
التعقيب الأول:
قوله في العنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي "
هذا العنوان معناه أن السلف ليس لهم مذهب يعرفون به وكأنهم في نظره عوام عاشوا في فترة من الزمن بلا مذهب ومعناه أيضا أن تفريق العلماء بين مذهب السلف ومذهب الخلف تفريق خاطئ لأن السلف ليس لهم مذهب، وعلى هذا لا معنى لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين...) وقوله لما سئل عن الفرقة الناجية من هي؟ قال (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) لا معنى لهذا كله لأن السلف ليس لهم مذهب ولعل قصد الدكتور من ذلك هو الرد على الذين يتمسكون بمذهب السلف في هذا الزمان ويخالفون المبتدعة والخرافيين.
التعقيب الثاني:
قوله في (ص5):
" هذا الكتاب لا يتضمن أي مناقشة لآراء السلفية وآفكارهم التي يعرفون بها كما لا يتضمن تصويبا ولا تخطئة لها ".
ومعنى هذا أن الآراء السلفية قابلة للمناقشة والتخطئة، وهذا فيه إجمال لأن السلفية بمعناها الصحيح المعروف لا تخالف الكتاب والسنة فلا تقبل المناقشة والتخطئة. وأما السلفية المدعاة فهي محل النظر وهو لم يحدد المراد بالسلفية فكأن كلامه موهما عاما يتناول السلفية الصحيحة والسلفية المدعاة.
التعقيب الثالث:
في (ص12) المقطع الأول يعلل فيه أن وجوب اتباع السلف بكونهم أفهم للنصوص لسلامة لغتهم ولمخالتطهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا فيه نقص كبير لأنه أهمل قضية تلقيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلمهم منه وسؤالهم إياه ومشاهدتهم التنزيل على رسول الله وتلقيهم التأويل عنه - صلى الله عليه وسلم -?، وهذه مرتبة من العلم لم يبلغها غيرهم، وقد أهمل ذكرها وتناساها تماما كما أنه في آخر هذه الصفحة يقرر أن اتباع السلف لا يعني أخذ أقوالهم والاستدلال بمواقفهم من الوقائع وإنما يعني الرجوع إلى القواعد التي كانوا يحتكمون إليها. ومعنى هذا الكلام أن أقوال السلف وأفعالهم ليست حجة وإنما الحجة هي القواعد التي كانوا يسيرون عليها. وهذا كلام فيه تناقض لأن معناه أننا نلغي أقوالهم ونأخذ قواعدها فقط ونستنبط بها من النصوص غير استنباطهم، وهذا إهدار لكلام السلف ودعوة لكلام جديد وفهم جديد يدعي فيه أنه على قواعد السلف.
التعقيب الرابع:
في (ص13و14) ينكر أن تتميز طائفة من المسلمين من بين الفرق المختلفة والمفترقة وتسمى بالسلفية ويقول: لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام. وهذا فيه إنكار لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قيل من هي يا رسول الله قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي) فهذا الحديثان يدلان على وجود الافتراق والانقسام والتميز بين السلف وأتباعهم وبين غيرهم.
والسلف ومن سار على نهجهم ما زالوا يميزون أتباع السنة عن غيرهم من المبتدعة والفرق الضالة ويسمونهم أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح ومؤلفاتهم مملوءة بذلك، حيث يردون على الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة وأتباع السلف. والدكتور يجحد هذا ويقول: لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام. وهذا إنكار للواقع مخالف لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الانقسام والافتراق في هذه الأمة وأنه لا يبقى على الحق منها إلا فرقة واحدة.
التعقيب الخامس:
من (ص14 - 17) يحاول أن يسوغ قوله بعدم وجوب الأخذ بأقوال السلف وأعمالهم وتصرفاتهم بأن السلف أنفسهم لم يدعوا الناس إلى ذلك، وبأن العادات تختلف وتتطور في اللباب والمباني والأواني.... إلخ ما ذكره وهذا الكلام فيه جهل وخلط وتلبيس من وجهين:
الوجه الأول: قوله إن السلف لم يدعوا إلى الأخذ بأقوال السابقين. وهذا كذب عليهم فإن السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يحثون على امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاقتداء بالسلف الصالح والأخذ بأقوالهم والله قد أثنى على الذين يتبعونهم فقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}........ الآية وقال - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي) وقال - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقال عبد الله بن مسعود: من كان مستنًّا فليستن بمن مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبر الناس قلوبا وأغزرهم علمًا وأقلهم تكلفا.
وقال الإمام مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
.... إلى غير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في عقائد السلف والمسماة بكتب السنة ككتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد وكؤتاب السنة للآجري وكتاب السنة لابن أبي عاصم وغيرها تذكر أقوال السلف وتحث على الأخذ بها.
الوجه الثاني: أنه جعل مسائل العادات كالمباني والأواني والملابس كمسائل العلم والعقائد والعبادات تختلف باختلاف الأزمنة والأعراف، وهذا منه جهل أو تلبيس فإن الفرق في ذلك معروف لأقل الناس ثقافة وعلما، كل يعرف أن العادات تختلف وأما العبادات وأحكام الشريعة فهي ثابتة.
التعقيب السادس:
في (ص19) المقطع الأخير، يقول:
" إن السلف لم يجمدوا عند أقوال صدرت عنهم ".
ومراده أن السلف لا يبقون على أقوالهم بل يتحولون عنها، ومن ثم لا يجب علينا الأخذ بأقوالهم، وهذا فيه إجمال، فإن كان مراده أقوالهم في العقيدة فهو كذب عليهم؛ لأنهم ثبتوا على أقوالهم ولم يتحولوا عنه. وإن كان مراده أقوالهم في المسائل الاجتهادية فهم لا يجمدون على القول الذي ظهر لهم أنه خطأ بل يتركونه إلى الصواب.
التعقيب السابع:
قوله: " فكل من التزم بالمتفق عليه من تلك القواعد(1) والأصول وبنى اجتهاده وتفسيره وتأويلاته للنصوص على أساسها فهو مسلم ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله ".
نقول: ضابط الإسلام قد بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل وهو (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)(2)
فالمسلم هو الملتزم بالإسلام المقيم لأركانه، فلا حاجة إلى هذا التعريف الذي ذكره مع تعريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إن تعريفه فيه إجمال وعدم وضوح، فهو يتيح لكل أحد أن يفسر الإسلام بما يريد.
يدل على ذلك قوله فيما بعد:
" نعم إن من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهمه للاجتهاد من ثم فقد وقع الخلاف... إلخ "
فهل الإسلام قابل للاختلاف؟ كلا بل إن أصول الإسلام والعقيدة ليست مجالا للاجتهاد، وإنما هذا في المسائل الفرعية فمن خالف في أصول الدين وعقيدته فإنه يكفر أو يضلل بحسب مخالفته؛ لأن مدارها على النص والتوقيف ولا مسرح للاجتهاد فيه.
التعقيب الثامن:
قوله: " إن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية، قصارى ما في الأمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بالخيرية كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه، فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها فتلك إذن أحد البدع " اهـ.
ونقول هذا التفسير منه للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة - تفسير غريب وباطل، فهل يقال: للمرحلة الزمنية بأنها سلفية؟ ! هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ووصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث. فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر - صلى الله عليه وسلم - افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها أنها في النار إلا واحدة، ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف وتسير عليه فقال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي) فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار، وما ذلك إلا لضلال هذه الفرق المخالفة للفرق الناجية، لا كما يقول فيما سبق في (ص 20/21):
" ومن حق صاحب أحد الرأيين أو الآراء في تلك المسائل الاجتهادية أن يطمئن إلى أن ما ذهب إليه هو الصواب، ولكن ليس من حقه أن يجزم بأن الذين خالفوه إلى الآراء الأخرى ضالون خارجون عن حظيرة الهدى " اهـ.
ونقول له: ليس هذا على إطلاقه إنما هو في المسائل الفروعية التي هي مسرح للاجتهاد. أما مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنما مدارها على التوقيف ومن خالف فيها ضُلِّل أو كُفِّر بحسب مخالفته وقد ضُلل السلف القدرية والخوارج والجهمية وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف.
التعقيب التاسع:
زعم في (ص27 – 31) أن الصحابة لم يكن بهم حاجة إلى تحكيم ميزان علمي في الاستنباط. وهذا فيه إجمال، فإن أراد بالميزان العلمي فهم النصوص ومعرفة معانيها وما يراد بها فهم أغزر الناس علمًا في ذلك وأقلهم تكلفا، وإن أراد بالميزان العلمي منهج الجدل وعلم الكلام فهذا ميزان جهلي لا ميزان علمي وهم أغنى الناس عنه، وقد تركوه وحذروا منه وضللوا أصحابه؛ لأنه لا يوصل إلى حقيقة ولا يهدي إلى صواب وإنما آل بأصحابه إلى الشك وإن زعم من ابتلي به أنه ميزان علمي، ووصفوا أنفسهم بأن طريقتهم أعلم وأحكم وأن طريق السلف أسلم، ويصفون السلف بأنهم ظاهريون كما وصفهم الدكتور بذلك في هذا الكتاب في (ص 31) فقال: فإن الشأن فيما ذكرناه عنهم من ابتعادهم عن ساحة الرأي وعدم الخوض فيما تلقوه من أنباء الغيب وغوامض المعاني ووقوفهم في ذلك مع ظاهر النص دون تعطيل ولا تشبيه، فهذا معناه أن طريقة السلف طريقة بدائية تقف عند ظاهر النصوص، وليست طريقة علمية تنفذ إلى غور النصوص ومقاصدها.
التعقيب العاشر:
من (ص 42 – 47) يحاول أن يسوغ مخالفة بعض الخلف لمنهج السلف باتساع بلاد الإسلام ودخول أجناس من البشر في دين الإسلام، وهم يحملون ثقافات أجنبية وبتوسع في مجالات الحياة المعيشية باختلاف الملابس والمباني والأواني والصناعات والأطعمة... إلى غير ذلك مما ذكره من الكلام الطويل، إلى أن قال في النهاية:
فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجة لذاتها لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها؛ لأنها برهان نفسها، إذ لوجب أن تكون تلك النظرات " يعني نظرات السلف " المتباعدة المتناقضة كلها حقا وصوابا، ولوجب المصير _ ودون أي تردد إلى رأي _ المصوبة (3)، ولما احتاج أولئك السلف رضوان الله عليهم أن يلجؤوا أخيرا من مشكلة هذا التناقض والاضطراب إلى منهج علمي يضبط حدود المصالح... إلخ ما قال.
ونحن نجيبه عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن السلف لم يختلفوا في مسائل العقائد والإيمان وإنما اختلفوا في مسائل الاجتهاد الفرعية، وليس ذلك اضطرابا وتناقضا كما يقول، وإنما هو اجتهاد.
الجواب الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتباعهم بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقال عن الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي) وأثنى الله على من اتبعهم ورضي عنه معهم فقال سبحانه {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} والإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. فيجب اتباعهم والأخذ بأقوالهم لا سيما في العقيدة؛ لأن قولهم حجة كما هو مقرر في الأصول.
التعقيب الحادي عشر:
في (ص 53 – 54) وصف الكوثري بأنه محقّق، ونقل كلاما له ذكر فيه أن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس بثوا بين أعراب الرواة من المسلمين أساطير وأخبارا في جانب الله فيها تجسيم وتشبيه وأن المهدي أمر علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة(4) وأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وخدموا الدين. هكذا وصف الكوثري رواة الإسلام بأنهم أعراب راجت عليهم أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وهذه الأساطير بزعمه هي الأخبار المتضمنة لأسماء الله وصفاته لأنها تفيد التشبيه والتجسيم عنده وأثنى على علماء الكلام الذين ردوا هذه الروايات ووصفهم بالدفاع عن الإسلام والرد على الملحدين والزنادقة.
وأما علماء الكتاب والسنة فليس لهم دور عند الكوثري في الذب عن الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة. وقد نقل الدكتور كلامه هذا مرتضيا له ووصفه بالمحقق والله المستعان.
التعقيب الثاني عشر:
في (ص 63) يرى في فقرة (1) أنه يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا كانت هذه النصوص أو سنة.
ونقول له: أولا: هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته؟ أليس هو متواترا تواترا قطعيا؟ وإذا كان يريد بعض القراءات فلماذا لم يبين ويقيد كلامه بذلك؟
ثانيًا: هل القرآن من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالسنة أو هو وحي كله، لفظه ومعناه من الله تعالى والرسول مبلغ فقط أن كلامه هذا يوهم أن القرآن من كلام الرسول كالسنة، وليس هو كلام الله تعالى.
التعقيب الثالث عشر:
قال في (صفحة 63 – فقرة ج) أنه يجب على الباحث عرض حصيلة تلك المعاني " أي معنى النصوص الصحيحة " التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل لتمحيصها، ومعرفة موقف العقل منها. ا هـ.
ونقول: هل للعقل موقف وسلطة مع النصوص الصحيحة؟ فهذا لم يقل به إلا المعتزلة ومن وافقهم، أما أهل السنة فيسلمون لما صح عن الله ورسوله، سواء أدركته عقولهم أم لا، ولا سيما في نصوص الأسماء والصفات وقضايا العقيدة، فإن العقول لا مجال لها في ذلك؛ لأنه من أمور الغيب، مع العلم أن الشرع لا يأتي بما تحيله العقول، لكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدرك كنهه.
التعقيب الرابع عشر:
في (ص 64) المقطع الثالث يستنكر تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين، وهذا رد للنصوص التي أخبرت عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والتي أخبرت عن حدوث الاختلاف الكثير وحثت على التمسك بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين عند ذلك، وكتابه يدور حول هذه النقطة، وهو إنكار لما هو واقع من الانقسام والافتراق في هذه الأمة، فهو إنكار للواقع المحسوس وكان الأجدر به أن يحث المتخلفين والمفترقين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بدلا من أن يطمئنهم على ما هم عليه من فرقة ومخالفة وبأنهم على الحق.
التعقيب الخامس عشر:
في (ص 65 – 67) يشكك في صحة الاستدلال بالخبر الصحيح الذي لم يبلغ حد التواتر في الاعتقاد فيقول:
"هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة المتواتر ".
ونقول: هذا كلام غير سليم ولا سديد، فإن خبر الآحاد إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب تصديقه والتسليم له والجزم بمضمونه في العقائد وغيرها.
وهذا القول الذي ذكره قول مبتدع في الإسلام فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله آحادا ويقبل المرسل إليه خبره من غير توقف ولا تشكك في صحة ما جاءوا به، وكذلك الصحابة وأتباعهم كانوا يتقبلون الأحاديث الصحيحة ويحتجون بها، ولا يشكون في مضامينها في العقائد وغيرها، ولا يوجد هذا التفريق في كلام السلف، وإنما وجد في كلام بعض الخلف فهو تفريق مبتدع.
التعقيب السادس عشر:
في (ص 99) ذكر الدكتور البوطي الأصول والأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، وذكر منها اليقين بأن الله عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا الذي ذكره لا يزيد على توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون وجمهور الأمم، فالإقرار واليقين به وحده لا يكفي حتى ينضاف إليه توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، وهذا أيضا أصل لا مجال للاختلاف فيه.
وقوله في هذه الصفحة في الفقرة (4) عن صفات الله أنها قديمة قدم ذاته، هذا ليس على إطلاقه، إنما يقال في صفات الذات، أما صفات الأفعال كالاستواء والنزول والخلق والرزق فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، وكذا قوله عن كلام الله فهو قديم ليس على إطلاقه؛ لأنه من صفات الأفعال، فهو قديم النوع حادث الآحاد كغيره من صفات الأفعال، وهذا التفصيل معروف عند أهل السنة والجماعة.
التعقيب السابع عشر:
قوله في (ص 99)
" وكل ما قد وصف الله به ذاته أو أخبر به عنها مما يستلزم ظاهرة التجسيد والتشبيه نثبته له كما قد أثبت ذلك لنفسه وننزهه عن الشبيه والنظير والتحيز والتجسد... ".
نقول: ليس في صفات الله ما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه، وإنما ذلك فهم فهمه بعض الجهال أو الضلال ولا ينسب ذلك إلى النصوص؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به لا تشبهها صفات خلقه، ولا يدور هذا في ذهن المؤمن الصادق الإيمان، وكلام الله وكلام رسوله ينزه عن أن يكون لازمه باطلا.
التعقيب الثامن عشر:
قوله في (ص101) في الفقرة (8) إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لا تستلزم تحيزا في جهة معينة. اهـ.
وأقول: نفي الجهة عنه الله مطلقا غير صحيح فإنه سبحانه في جهة العلو كما تواترت الأدلة على علوه في خلقه، وإنما ينزه عن جهة غير العلو.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الجهمية ومن سار على منهجهم في ذلك وغيره.
التعقيب التاسع عشر:
قوله في (ص101و102): إن الشفاعة في حق كثير من العصاة والمذنبين ميزة ميز الله بها نبيه عن سائر الرسل.
هذا كلام غير صحيح، فإن الشفاعة في عصاة الموحدين ليست خاصة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل ليست خاصة بالأنبياء، وإنما الخاص به - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، وما ورد الدليل باختصاصه به.
التعقيب العشرون:
قوله في (104) في المقطع الأخير: والإسلام يستتبع آثاره مستقلا ومنفصلا عن الإيمان في الدنيا.
هذا الكلام فيه نظر؛ فإن الإسلام الصحيح لا ينفصل عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن انفصل عنه فليس إسلاما صحيحا وإنما هو نفاق والمنافق لا يسمى مسلما وإنما يسمى منافقا، كما سماه الله ورسوله، ولا يلزم من معاملته معاملة المسلم في الدنيا أنه مسلم حقيقة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
التعقيب الحادي والعشرون:
قوله في (ص107): والقول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه _ وهو مذهب المعتزلة _ ليس مكفِّرا.
أقول: في نفي تكفيره نظر؛ لأن من قال ذلك إن كان مع هذا ينكر علم الله _ كما هو قول غلاة القدرية _ فهو كافر، وإن كان لا ينكره وهو مقلد لغيره فقد أنكر أحد أركان الإيمان _ وهو القدر _ على علم، فكيف لا يكفر من كان هذه حاله؟
وأيضا هو قد أثبت لله شريكا في خلقه، وقد قال السلف عن هذا الصنف: إنهم مجوس هذه الأمة، بل ورد تسميتهم بذلك في أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
التعقيب الثاني والعشرون:
ما ذكره في (ص111 - 112) من أنه من أضفى صفات النبوة على عليّ بن أبي طالب وما يعتقده بعض المريدين في أشياخهم من العصمة، وما قاله الإمام الخميني من أن لأئمتهم ما لا يبلغه ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسَل.
إن هذه الأمور تعتبر شذوذات لا تستوجب لكفر أصحابها وخروجهم من الملة.
وكرر ذلك أيضا في (ص110) وقال في هامش (ص112) تعليق (رقم 1): سألت بعض الإخوة علماء الشيعة الإيرانيين.... إلخ.
إن عدم تكفير من يقول هذه المقالات واعتباره أخا خطأ واضح؛ لأنها من أسباب الردة الواضحة، فكيف لا يكفرون بذلك؟!
التعقيب الثالث والعشرون:
قوله في (ص114): ويقابل التعطيل التجسيم أو التشبيه، وهو أن تترك هذه الآيات (أي آيات الصفات) على ظاهرها، ويفهم منها المألوف في حياة المخلوقين والمحدثين، فيفهم من اليد الجارحة التي خلقها الله فينا، ويفهم من الاستواء معناه المتمثل في جلوس أحدنا على كرسيه أو سريره، ويفهم من المجيء الحركة التي تتخطى حيزا إلى غيره، وهكذا. اهـ.
والجواب عن ذلك أن نقول:
أولا: لا بد من ترك الآيات على ظاهرها فإنه حق مراد لله سبحانه، وكون بعض الناس يفهم منها فهما سيئا آفته من فهمه الخاطئ وليس ما فهمه هو ظاهر الآيات.
وَكَمْ مِنْ عائبٍ قولا صحيحا ** وآفُتُه من الفهمِ السقيمِ
ثانيًا: الآيات تدل على صفات حقيقية لله، فله يد حقيقية تليق به ولا تشبه يد المخلوق، والاستواء له معنى حقيقي فسره به السلف وأئمة السنة واللغة وهو العلو والارتفاع والاستقرار والصعود، وكل هذه المعاني على ما يليق بالله لا كعلو المخلوق وارتفاعه واستقراره وصعوده، تعالى الله عن ذلك.
وكذلك المجيء هو مجيء حقيقي على معناه في اللغة العربية، وكذا الإتيان كما جاء في الآيات الأخرى، ولا يلزم منه مشابهة مجيء المخلوق وإتيانه، والجارحة والحيز ألفاظ مجملة لم يرد نفيها ولا إثباتها في حق الله تعالى.
التعقيب الرابع والعشرون:
في صفحة 118 - 119 أثنى على بعض المتصوفة وبعض مؤلفاتهم كالقشيري، وهذا الثناء في غير محله؛ لأن التصوف أصل مبتدع في الإسلام ودخيل عليه، وقد تطور إلى أفكار إلحادية، وما زال العلماء المحقِّقون يحذرون منه ومن أصحابه، وبالخصوص القشيري، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية ردا مفصلا على رسالته وما فيها من مخالفات وشطحات، وفي الثناء عليه وعلى أمثاله تغرير بمن لا يعرف حقيقتهم.
التعقيب الخامس والعشرون:
تكلم عن صفات الله عز وجل من ص 132 - 144 وقد حصل في كلامه أخطاء كثيرة من أهمها:
1 - عد آيات الصفات من المتشابه وهذا خطأ؛ لأن آيات الصفات عند سلف الأمة وأئمتها من المحكم، ولم يقل إنها من المتشابه إلا بعض المت أخرىن الذين لا يحتج بقولهم ولا يعتبر خلافهم.
2 - ذكر أن آيات الصفات لها محملان:
المحمل الأول: أن تجري على ظاهرها مع تنزيه الله عز وجل عن الشبيه والشريك، وقال:
إن هذا تأويل إجمالي؛ لأن ظاهرها ما هو من صفات المخلوقين.
والجواب: نقول له: ليس الأمر كما ذكرت، فليس ظاهرها يدل على مشابهة صفات المخلوقين، وإنما هذا وهم توهمته أنت وغيرك من بعض الخلف، وليس هو ظاهرها؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بجلال الله وصفات الخالق تختص به وصفات المخلوق تختص به، ثم قال: والمحمل الثاني حملها على المعنى المجازي بأن يفسر الاستواء بالاستيلاء والتسلط والقوة. انتهى كلامه.
والجواب أن نقول له: لا يجوز حمل صفات الله عز وجل على المعنى المجازي؛ لأن هذا تعطيل لها عن مدلولها، بل يجب حملها على المعنى الحقيقي اللائق بالله؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ولا سيما كلام الله عز وجل ولا سيما ما يتعلق به وبأسمائه وصفاته، ولا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، وهذا ما لم يحصل حمله في نصوص الصفات فليس هناك ما يوجب حملها على المجاز وكتسويغ منه لهذا الباطل الذي ذكره نسب إلى بعض السلف تأويل بعض الصفات، فنسب إلى الإمام أحمد تأويل: {وَجَاء رَبُّكَ} بمعنى جاء أمر ربك، ونسب إلى البخاري تأويل الضحك بالرحمة، ونسب إلى الإمام حماد بن زيد تأويل نزول الله إلى السماء الدنيا بإقباله جل جلاله إلى عباده.
والجواب أن نقول:
أولا ما نسبه إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب أصحابه، وذكر البيهقي لذلك لا يعتمد؛ لأن البيهقي - رحمه الله - عنده شيء من تأويل الصفات، فلا يوثق بنقله في هذا الباب؛ لأنه ربما يتساهل في النقل، والثابت المستيقن عن الإمام أحمد إثبات الصفات على حقيقتها وعدم تأويلها، فلا يترك المعروف المتيقن عنه لشيء مظنون ونقل لم يثبت عنه، وله - رحمه الله - رد على الجهمية والزنادقة في هذا الباب مشهور ومطبوع ومتداول.
ثانيًا: وما نسبه إلى البخاري غير صحيح، فقد راجعت صحيح البخاري فوجدته قد ذكر الحديث الذي أشار إليه الدكتور (5) تحت ترجمة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} ولم يذكر تأويل الضحك بالرحمة، وإنما الذي أوله بالرضا هو الحافظ ابن حجر في الفتح، والحافظ - رحمه الله - متأثر بالأشاعرة، فلا عبرة بقوله في هذا.
ثالثا: ما نسبه إلى حماد بن زيد من تأويل النزول بالإقبال يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا لم يثبت عنه؛ لأنه من رواية البيهقي، والبيهقي - رحمه الله - يتأول بعض الصفات، فربما تساهل في النقل، ولو ثبت عن حماد هذا التأويل فهو مردود بما أجمع عليه السلف من إثبات النزول على حقيقته.
الوجه الثاني: أنه لا تنافي بين إثبات النزول على حقيقته وإقبال الله تعالى على عباده، فيقال: ينزل ويقبل على عباده ليس في هذا حمل على المجاز كما يظن الدكتور.
3 - نسب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أنهم قد يفسرون الوجه بالجهة أو القبلة أو الذات وظن أن هذا تأويل للوجه الذي هو صفة من صفات الله عز وجل الذاتية، وهذا الظن منه خطأ واضح؛ فهولاء الأئمة لم يقصدوا ما توهمه؛ لأن الوجه لفظ مشترك تارة يراد به الوجه الذي هو الصفة الذاتية وتارة يراد به الدين والقصد وتارة يراد به الجهة والوجهة، وسياق الكلام هو الذي يحدد المقصود في كل مكان بحسبه، فإذا فسر الوجه في موضع بأحد هذه المعاني لدليل اقتضى ذلك من دلالة السياق أو غيره صح ذلك ولم يكن تأويلا بل هو تفسير لذلك النص وبيان للمراد به.
وبما ذكرنا يتبين من جواز حمل آيات الصفات وأحاديثها على المعنى المجازي وصرفها عن ظاهرها أنه قول غير صحيح، وأنه لا مستند له فيما ذكره عن بعض السلف إما لأنه لم يصح عنهم أو لأنهم لم يقصدوا ما توهمه.
4 - اعتمد على تأويلات الخطابي لبعض الصفات وأشاد به ومدحه من أجل ذلك.
والجواب عن ذلك: أن الخطابي - رحمه الله - ممن يتناولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه في هذا، وله تأويلات كثيرة، والله يعفو عنا وعنه.
ثم العجيب في الأمر أن الدكتور تناقض مع نفسه حيث ذكر فيما سبق أنه يجب إثبات صفات الله كما جاءت مع تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل كما في صفحة 99 و101 و113 و 115 بينما نراه هنا يجوز تأويلها وحملها على المجاز، هل هذا تراجع عما سبق أو هو التناقض؟ !
التعقيب السادس والعشرين:
أنه في ص138 يجيز مخالفة السلف في إثبات الصفات على حقيقتها فيقول:
" بل نفرض أن أحدا من رجال السلف رضوان الله عليهم لم يجز لنفسه أكثر من أن يثبت ما أثبته الله لذاته مع تفويض ما وراء ذلك من العلم، والتفاصيل إلى الله عز وجل، فإن ذلك لا يقوم حجة على حرمة مخالفتهم في موقفهم، هذه حرمة مطلقة " انتهى كلامه.
ونقول: يا سبحان الله ألا يسعنا ما وسع السلف؟ أليست مخالفتهم وفيهم المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة أليست مخالفتهم لاسيما في العقيدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) والله تعالى يقول {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فشرط سبحانه في رضاه عمن جاء بعدهم اتباعهم للمهاجرين والأنصار بإحسان، والدكتور يقول لا تحرم مخالفتهم في صفات الله عز وجل. ألم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون. ومعنى هذا الحث على الاقتداء بهم والنهي عن مخالفتهم لا سيما في أصول الدين، فهل تجوز المخالفة في أمور العقيدة، أليست العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها والاختلاف فيها؟!.
التعقيب السابع والعشرون:
في ص146 المقطع الأخير، ذكر أن من البدع القول بفناء النار وأن ذلك داخل بإجماع المسلمين في معنى البدعة.
وتعقيبنا عليه من وجهين:
الوجه الأول: أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من البدع كما زعم، فالمسألة خلافية وإن كان الجمهور لا يرون القول بذلك، لكنه لم يتم إجماع على إنكاره وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها.
الوجه الثاني: أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن والسنة، وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته، فإن هذا القول لا يعد من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له؛ لأن البدع ما ليس لها دليل أصلا، وغاية ما يقال أنه قول خطأ أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة.
وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو من المسائل الخلافية.
التعقيب الثامن والعشرون:
في ص149 قال: وتفريق الباحث في مسألة القرآن بين ما فيه من المعاني النفسية والألفاظ المنطوق بها، مع ما يلحق بها من حبر وورق وغلاف ليقول إن الأول (يعني المعاني النفسية) قديم غير مخلوق، والثاني حادث مخلوق، أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?، ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق. والثاني حادث مخلوق أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق دون تفصيل ولا تفريق، أم لا يعد بدعة وإنما هو شرح وبيان لما علمه الصحابة من قبل على وجه الإجمال، ومن ثم فلا مانع _ لاسيما في مجال التعليم _ من هذا التفريق والتفصيل اهـ.
وتعقيبا عليه أقول: كلامه هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يفرقون في كلام الله بين المعنى واللفظ فيقولون: المعنى قائم بالنفس وهو قديم غير مخلوق، وهذا كلام الله عندهم، وأما اللفظ فهو عندهم تعبير عن هذا المعنى من قبل جبريل أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخلوق.
وهذا تفريق باطل(6)، ومذهب أهل السنة سلفا وخلفا أن كلام الله تعالى هو اللفظ والمعنى، وكلاهما غير مخلوق؛ لأنه كلام الله تعالى وصفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة.
وقوله إن الصحابة علموا هذا التفريق بين اللفظ والمعنى في كلام الله هو تقول على الصحابة، ونسبة إليهم ما هم منه براء.
التعقيب التاسع والعشرون:
في ص149 تساءل عن التوسل بجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، أو بجاه من عرفوا بالصلاح والاستقامة بعد وفاتهم هل هو بدعة أو يقاس على التوسل به - صلى الله عليه وسلم - حال حياته وهو شيء ثابت دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومن ثم فهو ليس من البدعة في شيء. ولم يجب عن ذلك التساؤل بل ترك القارئ في حيرة والتباس.
وأقول، أولا: التوسل بالجاه ليس أصلا لا في حياته ولا بعد موته فهو بدعة بلا شك.
ثانيًا: أما التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فهو جائز في حياته؛ لأنه يتمكن من الدعاء فيها أما بعد وفاته فطلب الدعاء منه بدعة ولا يجوز؛ لأنه لا يقدر على الدعاء ولأن الصحابة لم يفعلوا هذا معه بعد وفاته وإنما كانوا يفعلونه حال حياته، ولا تقاس حالة الحياة على حالة الموت لوجود الفوارق العظيمة بينهما عند جميع العقلاء، وإنما يقيس هذا القياس المخرفون، وإن كان هو يزعم في ص 155 أن هذا التفريق لم يعرف إلا عند ابن تيمية وأن السلف لم يفرقوا، ولم تفرق الأدلة بينهما، وكأنه لم يقرأ ما ذكره العلماء في الموضوع وما ذكره ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة عن السلف والأمة في ذلك أو أن تحامله عليه أنساه ذلك.
ثم إنه نسب إلى السلف ما لم يقولوه، وحمل الأدلة ما لم تحتمله ولم يأت بدليل واحد على ما قال وأنى له ذلك؟ !
والواجب أن الباحث أمثال الدكتور البوطي لا يخطئ شخصا ويتحامل عليه حتى يقرأ كلامه وينظر في مستنداته حتى يعرف هل هو مخطئ أو مصيب؟ هذا هو الإنصاف والعدل، ولا ننسى أن الدكتور البوطي له هنات في غير هذا الكتاب حول هذه المسألة قد قام بالرد عليها الشيخ محمد ناصر الألباني حفظه الله.
ثم إنه في ص146 يهون من شأن المسألة ويقول هي أقل من أن تصدع المسلمين أو تجعل منهم مذهبين.
وأقول كلا والله إنها لمسألة خطيرة تمس صميم العقيدة وتجر إلى الشرك فكيف تكون هينة؟!
التعقيب الثلاثون:
في ص150و157 أدخل تحت بدعة التزيد في العبادة الأذان الأول ليوم الجمعة الذي دعا به عثمان رضي الله عنه عندما دعت الحاجة إليه، وهذا منه خطأ واضح، فإن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ففعله هذا يعد سنة لا بدعة وتزيدا حاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه. وهذا ينسينا ما قاله في حق شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ابتدع التفريق بين حالة الحياة والموت إذ أن الخليفة الراشد عنده قد ابتدع في الدين.
التعقيب الواحد والثلاثون:
في (ص160) خلط بين علم الكلام والفلسفة وانتقد شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أجاز مناظرة المتكلمين بمثل مصطلحاتهم مع أنه ينكر على الغزالي انشغاله بالفلسفة وكأنه لا يدري أن علم الكلام غير الفلسفة وأن بينهما فرقا واضحا(7).
وقد انتقد شيخ الإسلام أيضا في ص162و163 من ناحية أنه يحذر من الإقبال على علم الكلام والمنطق وهو قد تضلّع فيهما وناظر بهما.
والجواب عن ذلك أنه - رحمه الله - يحذر من الاشتغال بذلك من هم على غير مستوى علمي جيد يمكنهم من التخلص من أضرار علم الكلام، ولأن ذلك يشغل عن تعلم الكتاب والسنة، فأي انتقاد يوجه إليه في ذلك إلا من صاحب هوى وحقد، ثم إن الشيخ - رحمه الله - لا ينكر على من تعلم علم الكلام والمنطق من أجل الرد على المضللين وقتلهم بسلاحهم، وإنما ينكر على من تعلمها بغير هذا القصد.
التعقيب الثاني والثلاثون:
من ص 164 - 188 شن هجوما مسلحا على شيخ الإسلام ابن تيمية واتهمه أنه قال بقول الفلاسفة حينما قال إن الحوادث قديمة النوع حادثة الآحاد.
وهذه المسألة قد شنع بها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه قديما وحديثا وقالوا إنه يقول بحوادث لا أول لها والدكتور في هذا الكتاب اتخذ من هذه المسألة متنفسا له ينفث من خلاله ما في صدره من حقد على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه شيخ السلفيين الذين يضايقونه في هذا الزمان.
ولكن والحمد لله ليس له في هذه المسألة ولا للذين سبقوه أي مدخل على الشيخ وسيرده الله بغيظه لم ينل خيرا كما رد الذين من قبله، فإن مراد الشيخ - رحمه الله - أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء.
قال - رحمه الله -: والتسلسل الواجب ما دل عليه الشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، فكل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال.
والفرق بين الحي والميت الفعل، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل إلى أن قال: ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن إلى أن قال: والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون رب العالمين لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه.
هذه خلاصة ما يراه الشيخ في هذه المسألة، وهل في ذلك ما يشنع به عليه كما يظنه الدكتور وأضرابه إلا أنه الهوى والحقد أو الجهل والغفلة، فإن بين ما قاله الشيخ في هذه المسألة وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم فروقا واضحة هي الفروق بين الحق والباطل والكفر والإيمان.
التعقيب الثالث والثلاثون:
في ص191 - 192 يؤيد عقد حلقات الصوفية التي يسمونها حلق الذكر، ويزعم أنه ليس هناك ما يمنع من إقامتها ويقول: إن الذكر مشروع.
ونحن نجيبه عن ذلك ونقول له: الذكر لا شك أنه مشروع، لكن على الصفة الواردة في الكتاب والسنة. أما إحداث هيئة للذكر لا دليل عليها كالذكر الجماعي أو الأوراد الصوفية التي ليس عليها دليل أو ربما يشوبها شيء من الألفاظ الشركية فهذه لا شك أنها بدعة وأن الذين يقيمونها مبتدعة داخلون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) والشيء قد يكون مشروعا في أصله، لكن الصفة التي يؤدى بها إذا لم يكن عليها دليل فهى بدعة. وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين يجتمعون في مسجد الكوفة وفيهم رجل يقول سبحوا مائة كبروا مائة هللوا مائة؛ لأن هذه الصفة ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
التعقيب الرابع والثلاثون:
في ص193 - 195 شنع على الذين ينكرون ذكر الله بالاسم المفرد (الله) ومنهم الشيخ ابن تيمية فإنه وجه إليه قذائف غضبه، وهو في هذا لم يصغ إلى حجج المذكورين، ومنها أن ذكر الله بالاسم المفرد لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في هدي السلف الصالح، علاوة على أنه لا يفيد شيئا؛ لأن الاسم المفرد لا يأتي بفائدة حتى يتركب مع جملة مفيدة، وما يزعمه الدكتور أن ذكر الله بالاسم المفرد يدخل في قوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فنحن نسأله ونريد منه الصدق في الجواب دون مراوغة: هل ورد في السنة من أمره الله بهذا الأمر وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الله بالاسم المفرد، إذ لا شك أن سنته تفسير للقرآن هذا من محدثات الصوفية وفهمهم السقيم، وكثيرا ما يكرر الدكتور أن المخالف في هذه المسألة وغيرها لا يضلل.
ونحن نقول له إن المخالف لا يضلل إذا كان لمخالفته مأخذ من النصوص الشرعية أما إذا كانت مخالفته ليس لها مأخذ من الكتاب والسنة فإنه يضلل؛ لأن الله تعالى يقول {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} وما دل عليه كتاب الله حق وما خالفه فهو ضلال يضلل من قال به.
التعقيب الخامس والثلاثون:
في ص196 - 197 يسوغ اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة ولم يجد دليلا والحمد لله لهذا التسويغ إلا أن ذلك قول كبار الصوفية كسهل التستري والحارث المحاسبي والجنيد _ وهذا لا أظنه معهم وإن حشره معهم _ ومعروف الكرخي، فهو بهذا الاستدلال كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء. (8)
ثم هل هناك حقيقة تخالف الشريعة حتى يقال: الحقيقة والشريعة إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص، وهذا إلحاد واضح وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة.
التعقيب السادس والثلاثون:
في ص201 - 212 تحدث عن الصوفية وأحوالهم وأقوالهم، وحاول الدفاع عنهم بكل ما أوتي من قوة والاعتذار لهم بكل ما أوتي من عبارة حتى عمن قال منهم: ما في الجبة إلا الله، وعمن قال منهم ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك. ورغم ما تحمله العبارتان من كفر وضلال حاول تأويلهما بما لا داعي للإطالة بذكره؛ لأن هاتين العبارتين تنبئان عن نفسهما ولا تقبلان التأويل.
فإن قول القائل: ما في الجبة إلا الله صريح في الاتحاد. وقوله: ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك مخالف لهدي الأنبياء جميعا، حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا، ولا يعني هذا أنهم لا يعبدونه إلا من أجل الخوف والطمع بل هم مع ذلك يحبونه حبا شديدا ويذلون له كما قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} وقال تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. ولا تصح العبادة إلا باستكمال هذه الأركان: المحبة والذل والخوف والرجاء.
ثم حاول الدفاع عن ابن عربي وما في كتبه: من القول بوحدة الوجود:
ففي هامش ص104 - 105 قال: إنه لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه الإلحاد الصريح حتى يعلم ما في قلبه: هل يعتقد ما يقول أم لا؟
ولو صح كلام الدكتور هذا ما كفر أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يشق عن قلبه ويعلم ما فيه من اعتقاد.
وعلى هذا فعمل المسلمين على قتال الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور؛ لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم، وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا؟
واسمع عبارته في ذلك حيث يقول: وخلاصة المشكلة أنه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ومن يقلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم دون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون(9) فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه.
ثم قال إما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة فيه ولا نقاش فيه. وإما أنه يدل ذلك دلالة قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق من فهم الشهود الذاتي من أصل كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه. انتهى.
وإنما سقت هذا المقطع من كلامه لإطلاع القارئ على ما فيه من تخبط وتناق