يقول الشيخ حماد الأنصاري:
أما عن حياة الشيخ حـامد الفقي: فعندمــا اجتمعتُ معه عام 1367هـ جئتُهُ وهو يُدرِّسُ "تفسير ابن كثير" عند (باب علي بالمسجد الحرام) ، وعندمــا سَمِعْتُهُُ ، قلت: هذا هو ضالّتي ، فكان يأخذ آيــات التوحيد ويسلّط عليها الأضــواء، وسمعتُهُ من بعيد ، فجلست في حلقَتِهِ ، وكانت أولُ حلقة أجلسُ فيها بالحرم وأنا شاب صغير ، وكان عُمري لا يتعدّى الثانية والعشرين ، وسمعت الدرس ، وكان الدرسُ في تفسير آيــات التوحيد..........
....قلت للشيخ حامد الفقي –رحمه الله-: يا شيخ أنا عندي سؤال؟ فقال: ما هو سؤالك يا ولدي؟
فقلتُ لهُ: كيفَ صرتَ موحداً وأنت درست في الأزهر؟
(وأنا أريدُ أن استفيد والناس يسمعون).
فقال الشيخ: والله إن سؤالك وجيه.
قال:أنا درست في جـامعة الأزهر ، ودرست عقيدة المتكلمين التي يدرِّسونَها ، وأخذت شهادة الليسانس وذهبت إلى بلدي لكي يفرحوا بنجاحي.
وفي الطريق مررتُ على فلاّح يفلح الأرض ، ولما وصلت عندَه قال: يا ولدي اجلس على الدكّة وكان عندهُ دكة إذا انتهى من العمل يجلس عليها ، وجلستُ على الدكة وهو يشتغل ، ووجدت بجانبي على طرفِ الدكة كتاب ، فأخذت الكتاب ونظرت إليه فإذا هو كتـاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" لابن القيم ؛ فأخذت الكتاب أتسلى به، ولما رآني أخذت الكتاب وبدأت أقرأ فيه تأخر عني حتى قدّر من الوقت الذي آخذ فيه فكرة عن الكتــاب . وبعد فترة من الوقت وهو يعمل في حقلِهِ وأنا أقرأ في الكتاب جاء الفلاّح.
وقال: السلام عليكم يا ولدي ، كيف حالك؟ ومن أين جئت؟ فأجبتهُ عن سؤالهِ.
فقال لي:والله أنت شاطر، لأنك تدرجت في طلبِ العلم حتى توصلت إلى هذه المرحلة؛ ولكن يا ولدي أنا عندي وصية. فقلتُ: ما هي؟
قال الفلاّح: أنت عندك شهادة تعيشك في كل الدنيا في أوروبا في أمريكا ، في أيِّ مكان. ولكنها ما عَلَّمَتك الشيء الذي يجب أن تتعلمه أولاً.
قلتُ: ما هو؟!
قال: ما عَلَّمَتك التوحيد!
قُلتُ لهُ:التوحيد!!
قال الفلاّح: توحيد السلـف.
قلتُ لهُ: وما هو توحيد السلــف؟!!
قال لهُ: انظر كيف عرف الفلاّح الذي أمامَك توحيـد السلـف.
هذه هي الكتب: كتــاب "السنة" للإمام أحمد الكبير.
وكتـاب "السنــة" للإمام أحمد الصغير
وكتـاب "التوحيد" لابن خزيمة.
وكتـاب "خلق أفعال العباد" للبخاري.
وكتـاب "اعتقاد أهل السنة" للحافظ اللالكائي.
وعدَّ لهُ كثيراً من كتب التوحيد. وذكر الفلاّح كتب التوحيد للمتأخرين. وبعد ذلك كتب شيخ الإســلام ابن تيمية وابن القِّيم.
وقال لهُ: أنــا أدلك على هذه الكتب إذا وصلت إلى قريتك ورأوك وفرحوا بنجاحك لا تتأخر ارجع رأساً إلى القاهرة فإذا وصلت القاهرة أدخل دار الكتب المصرية ستجد كل هذه الكتب التي ذكرتُها كلها فيها ولكنها مكدّسٌ عليها الغبار وأنا أريدك تنفض ما عليها من الغبار وتنشرها.
وكانت تلك الكلمات من الفــلاّح البسيط الفقيه قد أخذت طريقَها إلى قلبِ الشيخ حامد الفقي لأنها جاءت من مُخْلِص.
استوقفت الشيخ وسألتُهُ: كيــف عرف الفلاّح كل ذلك؟!
قال الشيخ حامد: لقد عرفَهُ من أُستاذِهِ (الرمال) .. هل تسمعون بـ(الرمال)؟
قلتُ لهُ: أنا لا أعرف (الرمَّال) هذا .. ما هي قصتُهُ؟
قال: (الرمَّال) كان يفتش عن كتب سلفه ولما وجد ما وجد منها بدأ بجمع العمال والكنّاسين وقام يُدرّس لهم وكان لا يُسمح لهُ أن يُدرسَ علانيــة وكان من جُملَتِهم هذا الفلاّح .. وهذا الفلاّح يصلح أن يكون إماماً من الأئمة و لكنهُ هناك في الفلاحة فمن الذي يصلح أن يتعلم؟! ولكن ما زال الخيرُ موجوداً في كُلّ بلدٍ حتى تقوم الساعـة.
ولما رجعتُ إلى قريتي في مصر وذهبتُ إلى القاهرة ووقفت على الكتب التي ذكرها لي الفلاّح كلها ما عـدا كتاب واحد ما وقفت عليه إلاّ بعد فترة كبيرة.
وبعد ذلك انتهينـا من الجلســةِ وذهــب الشيخ حـامد الفقي .. وكان يأتي إلى السعودية ونستقبلهُ ضمن البعثة المصرية أيّام الملك فاروق كل عام....
[المجموع للشيخ حماد الأنصـاري (1/294-297)]
المصدر سحاب