تعدَّدت الآراء والأفْكار مع انتشار إنفلونزا الخنازير، فأهل الإعلام تحرَّكوا في الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئيَّة، وتحرَّك أهل الطِّبِّ بأسباب الوقاية والعلاج، وتحرَّكت الحكومات بالتَّنظيم والتَّخطيط، ومن أهْل العلم الشَّرعي مَن نسب كلَّ هذا إلى الذُّنوب والمعاصي، ولنا وقفةٌ أُخْرى مع دروس مستفادة من إنفلونزا الخنازير.
الدرس الأول: توكُّل بعد يقين:
قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، قال جمهور المفسرين: يحصُل التَّوكُّل إذا وثِق العبد بربِّه، وعلِم أنَّ الأمور كلَّها بيده، ثمَّ أخذ بالسنَّة فباشَرَ الأسباب، مع اعتِقاده أنَّ الأسباب وحدَها لا تضرُّ ولا تنفع؛ إلا بأمر مسبِّب الأسباب - جلَّ جلاله.
فالمؤمن لا يَخاف من قدوم وباءٍ أو مرَض؛ لأنَّه يعلم أن لن يصيبَه إلاَّ ما قدِّر له، فيأخُذ بأسباب الوقاية والعِلاج، مع علمه يقينًا أنَّها لن تنفعَه أو تضرَّه إلاَّ بأمر الله - سبحانه وتعالى.
الدرس الثاني: كن مستعدًّا للقاء الله في أيَّة لحظة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8]، وروى البخاريُّ من حديث عبادة بن الصَّامت - رضِي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه، ومن كرِه لقاء الله كرِه الله لقاءَه))، فالمؤمِن يستعدُّ للقاء الله في أيَّة لحظة بأمور كثيرة؛ منها:
- تجديد التَّوبة على الدَّوام، فما من بشرٍ إلاَّ ويُخطئ، فزمَنُ العِصْمة انتهى بموت المصطفى.
فالمسلم إن زلَّ عاد إلى ربِّه فورًا، وهو يردِّد قولَه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
- المحافظة على الصَّلوات الخمْس مع الجماعة في بيوت الله؛ قال - جلَّ وعلا -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38].
- الذِّكر: قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مثَل الَّذي يذْكُر ربَّه والَّذي لا يذْكُر ربَّه كمثَلِ الحيِّ والميِّت))، فالذَّاكر لله حيٌّ، والغافل عن ذكر الله ميِّت وإن تحرَّك بين الأحياء.
الدرس الثالث: هل يُمكن أن يصاب أهْل الإيمان بوباء؟
الجواب: في سنة 18 من الهِجْرة في بلْدةٍ تسمَّى عمواس، بالقرب من بيْت المقدس في فلسطين، ظهَر أوَّل طاعون في الإسلام، وانتشر في بلاد الشَّام كلِّها، بِحيث قُتِل فيه سبعون ألفًا في ثلاثةِ أيَّام، ومن بيْنِهم كثيرٌ من أصْحاب النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كمُعاذ بن جبل (حامل لواء العُلَماء يوم القيامة)، وأبي عبيْدة بن الجراح (أمين هذه الأمَّة)، وبِلال بن رباح (مؤذن النبيِّ) - رضوان الله عليْهم أجْمعين.
فالبلاء مع المؤمن يمرُّ بثلاث مراحل:
التَّمحيص: قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
التطهير: في الصَّحيحَين من حديث أبي سعيد الخدْري: أنَّ الحبيب النَّبيَّ قال: ((ما يُصيب المسلمَ من نصَبٍ ولا وصَبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا غمٍّ ولا أذًى، حتَّى الشَّوكة يُشَاكُها؛ إلاَّ كفَّر الله بها من خطاياه)).
رفع الدرجات: وهذه درجة الأنبِياء والمرسلين، بل ومِن أجلها يأتيهم البلاء؛ ففي صحيح مسلم من حديث صُهَيب الرُّومي - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((عجبًا لأمر المؤمِن! إنَّ أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاَّ للمؤمِن، إن أصابتْه سرَّاء شكر، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له)).
ومع تمنياتِنا أن ينتفِع القرَّاء بما منَّ الله به عليْنا من دروس، ممَّا أصاب العالم من إنفلونزا الخنازير.