معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة
القاعدة السادسة: مراعاة الشارع الحكيم لتوقير الأمراء واحترامهم
وذلك من طريقين :
الأول : الأمر بذلك والتأكيد عليه.
الثاني : النهي عن كل ما يقضي إلي التفريط في توقيرهم واحترامهم من سبهم وانتقاصهم، والتأليب عليهم، ونحو ذلك.
فمن الطريق الأول : ما بوب له الحافظ ابن أبي عاصم في كتابه (( السنة ))، حيث قال :
باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره (39) ثم ساق بسنده عن معاذ بن جبل، قال : قال رسول الله ( :
(( خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله – عز وجل - : من عاد مريضاً، أو خرج مع جنازة أو خرج غازياً أو دخل على إمامة يريد تعزيزه وتوقيره، أو قعد في ببيته، فسلم الناس منه وسلم من الناس (40)
وبسنده أيضاً عن أبي بكرة – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله ً يقول : السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرم الله، ومن أهانه أهانه الله )) (41)
ومثل الإمام ابن أبي عاصم : الأمام أبو القاسم الأصبهاني – الملقب بقوام السنة – حيث قال في كتابه (( الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة )) (42)
(( فصل في فضل توقير الأمير )) وساق حديث معاذ – رضي الله عنه – السابق وحديث أبي ذر – رضي الله عنه – الآتي.
ومثلهما - أيضاً - : التبريزي، حيث قال في كتابه (( النصيحة )) (43) :
باب ذكر النصيحة للأمراء وإكرام محلهم، وتوقير رتبتهم، وتعظيم منزلتهم. ا هـ
ومن الطريق الثاني : ما بوب له ابن أبي عاصم – أيضاً – في كتاب ((السنة )) حيث قال :
باب ما ذكر عن النبي ( من أمره بإكرام السلطان وزجره عن إهانته (44)
ثم ساق بسنده حديث أبي بكر – السابق - :
(( من أهان سلطان الله أهانه الله ))
وبسنده – أيضاً – عن أبي ذر – رضي الله عنه – ن قال : سمعت رسول الله ( يقول :
(( سيكون بعدي سلطان، فمن أراد ذله ثغر في الإسلام ثغرة وليست له توبة إلا أن يسدها وليس يسدها إلي يوم القيامة )).
وقد أخرج بن أبي عاصم في (( السنة )) (45) هذا الحديث من وجه أخر صحيح، عن معاوية بن أبي سفيان، قال : لما خرج أبو ذر إلي الزبدة، لقيه ركب من أهل العراق، فقالوا : يا أبا ذر قد بلغنا الذي صنع بك فاعقد لواءً يأتيك رجال ما شئت.
قال : مهلاً مهلاً يا أهل الإسلام، فغني سمعت رسول الله ( يقول : (( سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من ألتمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت ))
وفي الباب أحديث وأثار كثيرة ذكرت طرفاً منها في ( الفصل السابع، في النهي عن سب الأمراء ) (46)
ومن تأمل النصوص الواردة في هذا الباب علم أن الشارع إنما أمر بتوقير الولاة وتعزيزهم، ونهي عن سبهم وانتقاصهم لحكمة عظيمة ومصلحة كبرى، ، وأشار إلي طرف منها الإمام القرافي في كتابه (( الذخيرة )) (47) فقال :
(( قاعدة ضبط المصالح العامة واجب ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتي اختلفت عليهم – أو أهينوا – تعذرت المصلحة ... )) ا هـ.
وقد أشار أيضاً العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله – إلي الحكمة في ذلك بقوله :
(( فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلي تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس.
كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى.
وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها.
فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن.
لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم وأن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، فحصل الشر والفساد.
فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب.
وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة ...)) (48) ا هـ.
ورحم الله سهل بن عبد الله التستري حينما قال :
(( لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين : أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين : أفسدوا دنياهم وأخراهم )) (49) ا هـ.
وأن شئت أن تتضح لك هذه القاعدة أكثر وتعلم منزلتها عند علماء الأمة، فتأمل حادثة الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، ساقها الإمام ابن القيم – رحمه الله – في كتابه (( بدائع الفوائد )) (50)، حيث يقول :
(( فائدة عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه فقال : أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يده، أكان خطأ، أم واقعاً موقعه ؟ قالوا : بلي، قال فالأب يربي ولده تربية خاصة والسلطان يربي العالم تربية عامة، فهو بالإكرام أولى.
ثم قال : وللحال الحاضرة حكم من لبسها، وكيف يطلب من المبتلي بحال، ما يطلب من الخالي عنها ؟ )) ا هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
39 ) (2/490-492 )
40 ) حديث صحيح بطرقه، وقد أخرجه أيضاً – الإمام أحمد في (( المسند ))( 5/241)، انظر (( ظلال الجنة في تخريج السنة )) للألباني : ( 2/490-491 ). وقد أخرج بن زنجويه في كتاب (( الأموال )9 : (1/87) نحوه من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكر فيه (( ستاً )) بدل ((خمس )) وفي آخره :
((قال : قلت : ما الضامن ؟ قال : من مات في شيء منها دخل الجنة )) ا هـ .
41 ) حديث حسن، انظر (ص 126)
42 ) ((2/409)
43 ) (ص 89 ).
44 ) ( 2/489-490 )
45 ) ( 2/513 ) .
46 ) ( ص 173 )، وينظر في (( رد المختار على الدر المختار )) لابن عابدين الحنفي ( 3/120 ) : مطلب : تعظيم أولي الأمر واجب، وفي كتاب (( طاعة السلطان )) لأبي عبد الله صدر الدين محمد بن إبراهيم السلمي المناوي الشافعي ( ص 41 ) : الفصل الثاني : فيما يجب من تعظيمه، وحقه على رعيته.
47 ) ( 13/234 )ط. دار الغرب الإسلامي .
48 ) نقلاً عن رسالة (( حقوق الراعي والرعية )) مجموعة خطب للشيخ ابن عثيمين .
49 ) ( تفسير القرطبي ) : ( 5/260-261 ).
50 ) ( 2/176) ط. المنيرية .