كشفُ الغُمَّةِ عن أهل الغُربة
الحمد لله الذي وعد بكشف كربته عن أهل الغربة, وجعل التمسك بالتوحيد والسنة أعظم قُربة، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره, وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين أما بعد ..
فيقول الله سبحانه وتعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ).
خرَّج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «طوبى للغرباء»، قلنا : وما الغرباء ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم :«قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».
وصح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل من الغرباء ؟ فقال:«الذين يَصْلُحُون إذا فسد الناس» .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «طوبى للغرباء»، قلنا : وما الغرباء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».
أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم «بدأ الإسلام غريباً» فيريد به : أن الناس كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم على ضلالة عامة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» خرجه الإمام مسلم في الصحيح، فلما بعث صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفاً من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الإيذاء وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفون يطردون ويشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية؛ كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذَّب في الله، وفيهم من قُتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة بعز ونصر وصاروا عليه ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً، وأكمل الله لهم الدين وأتمَّ عليه النعمة وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا), قال الحافظ بن رجب رحمه الله : ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه .
فأما فتنة الشبهات فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه : أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات في عدد الزائد على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا واحدة وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم.
وأما فتنة الشهوات ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : نكون كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون» . وفي صحيح البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا :«والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». ولما فُتحت كنوز كسرى على عمر رضي الله عنه بكى وقال : إن هذا لم يفتح على قوم إلا جعل بأسهم بينهم.
ولما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين : الشهوات والشبهات أو إحداهما أصبحو متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمَّت غالب الخلق فافتتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية مقصدهم، لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك .
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعاً وأحزابا وكفَّر بعضهم بعضاً وصاروا أعداء وفرقاً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وهم في آخر الزمان الغرباء المذكرون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُـزَّاعُ من القبائل؛ لأنهم قلُّوا فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان وقد لا يوجد منهم أحد كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمة هذا الحديث؛ قال الإمام الأوزعي في قوله صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، وهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيراً مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها السلفيين بالقلة والغرباء، وكان الحسن البصري رحمه الله يقول لأصحابه : يا أهل السنة ترفَّقوا رحمكم الله فإنكم أقل الناس . وقال يونس بن عبيد رحمه الله : ليس شي أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها . وقال سفيان الثوري : استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء .
ومراد هؤلاء الأئمة بالسُّـنة : هي طريقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي كان هو وأصحابه عليها، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول : أهل السنة من كان يعرف ما يدخل بطنه من حلال، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ثم صار في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم أن السنة عبارة عن ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل السنة في آخر الزمان قليل عددهم كثير من يعاديهم، وهم في ذلك غرباء بين الناس لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، قال الإمام ابن القيم رحمه الله وغفر الله : وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً فإنهم لم يأووا إلى غير الله عز وجل ولم ينتسبوا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة، لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليُّه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وهجروه . ومن صفات هؤلاء الغرباء : التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ طريقة ولا مذهب ولا طائفة ولا حزب بل هؤلاء الغرباء منسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس لائمٌ لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم انتهى كلامه رحمه الله وغفر له .
لقد جاء في الأحاديث مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن كان قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعواناً على الخير؛ فقد خرَّج الترمذي في سننه من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر» . وعند أبي داوود والترمذي وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رئي برأيه فعليك بنفسك ودع أمر العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله». قال ابن القيم رحمه الله وغفر له : فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة كيف لا يكون غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه، وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم . ثم أوصى رحمه الله من سلك هذا السبيل وأحب السنة ومنهج السلف الصالح بقوله : فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه وإن دعاهم إلى تحكيم الكتاب والسنة وآثار السلف وقدح فيما هم عليه من الهوى، فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل، فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة؛ لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم، وهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، وهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل البدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» . يقول ابن مسعود رضي الله عنه : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا غُيرت السنة، قالوا : ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : إذا كثر قراؤكم وقلَّ فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلَّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين .
فيا أهل السنة والتوحيد .. عليكم بالفقه والعلم قبل أن يقبض، يقول سهل بن عبد الله التستري : عليكم بالأثر والسنة فإني أخاف أن يأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والإقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه وأذلوه وأهانوه .
يقول العلامة سليمان بن عبد الله بن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب : رحمَ اللهُ سهلاً ما أصدق فراسته فلقد كان ذلك وأعظم، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة والأمر بإخلاص العبادة لله عز وجل وترك عبادة ما سواه . انتهى.
وهؤلاء الغرباء قسمان : أحدهما من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني : من يصلح ما أفسد الناس من السنة . وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما لا يضره من خذله ولا من خالفه، يصدع بما أمر الله به ويعرض عن الجاهلين ولا يخاف في الله لومة لائم؛ كما قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :«لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا علمه» أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان .
* ومن صفات الغرباء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
أولا: التمسك بالسنة والحذر من الأهواء والبدع والفتن؛ فقد جاء في الحديث مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن كان قبلهم؛ لأنهم لا يجدون على الحق أعواناً، قال الإمام الشافعي رحمه الله وغفر له:" ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت مودته, ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني."
ثانيــاً : قلتهم وكثرة من يخالفهم؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الغرباء قال:"قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" . قال الإمام الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى لا يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد . قال الحسن البصري رحمه الله وغفر له : يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم أقل الناس . وهذا في زمانهم فكيف بزماننا والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثالثاً: أنهم لا يضرهم من خذلهم أو خذلهم أو خالفهم فهم ظاهرون إلى قيام الساعة؛ كما بشَّر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يغلبون وهم بكتاب الله ورسوله مستمسكون فدين الله منصور غالب، ولكن هل نحن أهل لنصرته وبذل النفس في ذلك قال الله جل وعلى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ), فدين الله جل وعلى ظاهر وإنما نخاف على أنفسنا أن تميل إلى الدنيا وزهرتها.
رابعاً : الصبر على أذى المخالفين والجاهلين رغبةً فيما عند الله جل وعلى، قال ابن القيم رحمه الله : وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً .
خامساً : ومن صفاتهم الانكار على من يخالف منهج السلف ويميل إلى الأهواء البجعية والحزبية الحركية ومنظريها وقادتها ودعاتها؛ استجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم قال الله سبحانه وتعالى:" لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " وقال الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه: «من رأى منكم منكرا فليغيره" الحديث . قال ابن القيم : وقد كان السلف يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائناً من كان، ويهجرون فاعل ذلك ولا يسوغون غير الانقياد له صلى الله عليه وسلم والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة .
سادساً : ومن صفاتهم الحرص على التميز والحذر من التميع، فهم مع قلتهم يظهرون السنة وينكرون الأهواء المضلة وإن كثر المخالفون، وهم مع ما يلاقونه من عظم الغربة لا يفزعون إلى تمييع منهج السلف أبداً أو إلغاء الفروق بين السني السلفي وصاحب الهوى الخلفي بدعوى كلانا على خير! أو نفع الله بهم ! أو أن أهل السنة وعلماؤهم يتشفون من المسلمين عند التحذير من أخطائهم في العقيدة أو غيرها ! أو أن يقولوا كلنا مسلمون .. إلى آخر عبارات التمييع وحلول الوسط وتضييع المنهج السلفي، بل السني السلفي وهو في زمن الغربة يصدع بالحق ويرد على المخالف وإن أصبح غريباً وحيداً، فيما جرى للإمام أحمد زمن المحنة عضة وعبرة فإنه سجن وجرد وأوذي أعظم الإيذاء وبقي وحيداً في تلك المحنة غريباً ولكنه والله ما لان ولا مال إلى المخالفين أبداً بل رد عليهم وبدَّعهم حتى نصره الله وأعزه، والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب أوذي وأخرج وعاداه من عاداه فلم يلن أبدا ولو تميع وتنازل لضاعت دعوته السلفية قال الله جل وعلى:" وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا".
إن منهج السلف وسط بين الإفراط والتفريط ووسط أيضاً بين التمييع والتهييج، والفرق بين التميز المراد والتميع الذي نهي عنه حرف واحد فقط، ولكن هذا مشرَّق وتلك مغربة، وفرق آخر اليقين " مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ"، قال مالك ابن دينار : اصطلحنا على حب الدنيا فلا ينهى بعضا بعضا ولا يذرنا الله عز وجل على هذا .
فليت شعري .. أي عذاب ينزل أمة الإسلام أمة القرآن من الأمور التي تعين بإذن الله على كشف الكربة عن أهل الغربة الصبر، فإن الصبر عاقبته حميدة كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حال غربتهم بمكة يؤذون فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم وبشرهم صلى الله عليه وسلم بحسن العاقبة ثم قال ولكنكم تستعجلون قال الله جل وعلى :" واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" .
يا معاشر الإخوان .. كان يؤتى بالرجل فينشر من مفرق رأسه إلى قدميه ولا يرده ذلك عن دينه، قال الإمام الآجري رحمه الله وغفر له : من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزجته وإخوانه وقرابته .
ومما يعين على كشف الكربة : الفرح بنعمة الله وهدايته، أنه اختص هؤلاء الغرباء بنعمته وفضله فمن كان منهم فليحمد الله الذي شرح صدره للسنة قال الله جل وعلى:" قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " كان بعض السلف يقول أنعم الله علي بنعمتين، أولاهما : أن جعلني مسلماً . وثانيهما : أنه لم يجعلني حرورياً .
ومن ذلك : ألا يستوحش من قلة السالكين وكثرة المخالفين، وليس العجب ممن هلك كيف هلك ولكن العجب ممن نجى كيف نجى، قال ابن القيم : الداعون إلى السنة الصابرون على أذا المخالفين هم أشد هؤلاء غربة ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وأولئك هم الغرباء وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانو هم المعروفين، قال بعضهم : من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه جل وعلى .
ومما يعين على كشف الكربة عن أهل الغربة : الحرص على العلم والفقه في الدين وإلاخلاص في النية قال الله جل وعلى :"فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا" قال ربنا جل جلاله في أسارى بدر:" إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وسُئل أبو سليمان عن أفضل الأعمال فبكى وقال: أن يطلع الله على قلبك فيراك لا تريد من الدنيا غيره. قال ابن مسعود رضي الله عنه : كونوا جدد القلوب خرقان الثياب مصابيح الظلام تخفون على أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء .
وأما العلم فإن الله يحفظ المؤمن من الشبهات والضلالات الشيطانية بالعلم الشرعي،ومما ينبغي تعلمه منهج السلف الصالح فلا تكفي محبة المنهج السلفي دون فقه له وفهم، ففي كلام السلف وأخبارهم ما يكشف الكربة عن أهل الغربة بإذن الله سبحانه وتعالى، ألم يكن حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل النبي عن الشر وأهله مخافة أن يقع فيه أو يغتر بأقاويلهم وفتنهم كفانا الله شر المفتونين المتحزبين .
ومن ذلك : أن يواسي الغرباء بعضهم بعضاً وأن يرفق بعضهم ببعض، قال سفيان الثوري رحمه الله : استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء قال بعضهم : إذا سمعت برجل من أهل السنة في المشرق أو المغرب فابعث إليه بالسلام ما أقلَّ أهل السنة . قال أيوب : إني لأسمع بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي .
ومن ذلك : الحرص على مصاحبة أهل السنة السلفيين والحذر من أهل الأهواء المفتونين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» واحذر الشيطان الرجيم فإنه يزين لك مجالسة الزائغين بدعوى الإصلاح ! فما تدري إلا وقلبك قد زاغ معهم، قال الله جل وعلى:" فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" .
ومما يعين على كشف الكُربة : الخوف من الحور بعد الكور والخوف من سوء الخاتمة، فلا تعجبوا معاشر الإخوان بعمل عامل حتى تنظروا بما يختم له، فكم من رجل أبصر طريق السلف ونهجهم فما صبر على الأذى ومفارقة الأحباب ومازال به الشيطان يمنيه ويتوعده ويخوفه ويلقي إليه بالشبه حتى رجع القهقرى، وأذن لكل دعي أن يقوده بأذنه حيث شاء وعاد إلى ما كان عليه بعد أن علم الحق ودرسه، فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإسلام والسنة .
ومن ذلك : الثقة بموعود الله جل وعلى فإنه مهما بلغت غربة الإسلام فنحن على يقين أن الله مظهر دينه ومنجز وعده وناصر جنده قال الله جل وعلى:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" لقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة على الصفا وحده، والإسلام آن ذاك في غربة فدعاهم إلى التوحيد إلى لا إله إلا الله، وردَّ عليه عمه أبو لهب ونفر الناس من دعوته، ثم أذن الله بزوال هذه الغربة فعاد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى مكة بعشرة آلاف مجاهد فنصر الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ودخل الناس في دين الله أفواجاً وزالت تلك الغربة، ولكنكم تستعجلون، فثقوا بالله معاشر المؤمنين واعلموا أن نصر الله قريب وأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته .
وأخيراً .. عليكم بالتأسي بمن كان قبلنا من الأنبياء المرسلين والأولياء المتقين والعلماء والناصحين زمن الغربة والقلة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه إلا رجل أو رجلان بل يأتي النبي وليس معه أحد، تفَّكروا في سيرة المجدد الأول للدعوة السلفية الإمام أحمد ابن حنبل الذي كان يوصف بالصديق الثاني، وسيرة المجدد الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية وما جرى بينه وبين خصومه من الأمور العظام حتى مات مسجون في سبيل نصرة السنة، فأبقى الله ذكره ورفع قدره، وأما سيرة المجدد الثالث الإمام محمد ابن عبد الوهاب فعجيبة غريبة، بالله عليكم كيف كانت حاله حين أُخرج من بلده وحيدا فاتجه إلى الدرعية لا يدري ما يصير إليه وأي غربة كان يشعر بها هذا الإمام وهو يمشي وحيدا ولكن صدق من قال:"بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال الله جل وعلى: " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " .
فاللهم ارزقنا اليقين والثبات على الدين حتى نلقاك يا رب العالمين، اللهم صلي وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .