- تسمية الرسالة:
سمى ابن حزم رسالته " طوق الحمامة " فلماذا اختار هذا الاسم يقول الثعالبي: " طوق الحمامة يضرب مثلاً لما يلزم ولا يبرح ويقيم ويستديم (1) " ، ترى هل هذا هو المعنى الذي أراده ابن حزم حين اختار هذه التسمية دعني أقرر أنها فريدة، بادئ ذي بدء، ولكن من درس أحوال الحب في الكتاب يجد ان معنى " الدوام " ليس من الأمور التي تلازم الحب، لا من حيث النظرية ولا من حيث التجربة، غير أن
__________
(1) ثمار القلوب: 465.
(1/36)
--------------------------------------------------------------------------------
هذا لا ينفي أن الطوق للحماسة زينة منحتها بدعاء نوح، حين أرسلها لتستكشف المدى الذي سترسو عنده سفينته، فطوق الحمامة هنا كناية عن استلهام الجمال الذي هو مثار الحب اعني جمال الطوق لأنه حلية متميزة عن سائر لون الحمامة. ولست أستطيع هنا أن أتحدث عن " الحمائم " التي تقود مركبة فينوس - ربة الحب - في الأساطير الرومانية، فربما كان التوجه إلى هذا المعنى إيغالاً في التصور، ونقلاً من حضارة إلى حضارة أخرى، ولست كذلك أتوجه إلى أفانين الحب التي يمارسها الحمام، والتي يرى الجاحظ - أو من نقل عنه - أنها هي عين الممارسات التي توجد لدى الإنسان (1) ، كأنما هي صورة طبق الأصل من شتى المواقف من إخلاص وغيرة وشذوذ وتضحية وما إلى ذلك من فنون، ولكني حين أجدني اصل إلى الحيرة في سر هذه التسمية، أتوقف عند " الجمال " " والتميز " ، وكأني بابن حزم يقول: هذا كتاب يتحدث عن العلاقة السرية بين الجمال والحب أو هذا الكتاب بين الكتب كطوق الحمامة بالنسبة للحمامة؛ وعند هذا الحد أجد الثعالبي يقول ان الحمامة إنما أعطيت طوقها " من حسن الدلالة والطاعة " ، فأضيف إلى الجمال والتميز عنصر " الطاعة " وهو عنصر هام في مفهوم الحب.
ومع ان ابن حزم يقول في رسالته: " وكلفتني أعزك الله ان أصنف لك رسالة في صفة الحب وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " فغن العنوان الذي اختاره لرسالته هو " في الألفة والألاف " ، يعني أنه تجاوز في رسالته ما كلفه به صديقه لأن " الألفة " كلمة اعم من " الحب " وهي ناظرة إلى الحديث الشريف في الأرواح: " فما توافق منها ائتلف " . وبسبب هذه العمومية نجده أحياناً يخرج في أمثلته. التي يوردها من دائرة العشق، وذلك شيء سأتحدث عنه عند الحديث عن العلاقة بين نظريته في الحب، وتطبيقه لتلك النظرية.
__________
(1) الحيوان 3: 63.
(1/37)
--------------------------------------------------------------------------------
3 - تاريخ التأليف:
تقلبت الأحوال بابن حزم تقلباً جائراً في الفتنة، كان عمره حين انتقل أبوه من دورهم الجديدة بالجانب الشرقي (في ربض الزاهرة) إلى دورهم الجديدة في الجهة الغربية (أب بلاط مغيث) حوالي خمسة عشر عاماً وتسعة أشهر، وفي ذي القعدة من سنة 402 توفي والده (وقبلها بنحو عام توفي أخوه أبو بكر في الطاعون)، وتوالت عليهم النكبات والاعتقال والمصادرة، ثم احتل جند البرابر منازل أهله، فاضطر للخروج عن قرطبة (أول المحرم سنة 404 / 1013) فذهب إلى المرية يطلب الاستقرار فيها، ولم تطل فيها إقامته، فقد نكبه صاحبها خيران العامري إذ اتهمه مع صاحبة محمد بن إسحاق بأنهما يسعيان في استعادة الدولة الأموية، فاعتقلهما اشهراً، ثم غربهما فذهبا إلى حصن القصر ونزلا على صاحبه عبد الله بن هذيل التجيبي فرحب بهما، ولما سمعا بقيام المرتضى عبد الرحمن بن محمد (407/ 1016) لإحياء الدولة الأموية ركبا البحر من حصن القصر إلى لقائه في بلنسية، وسكنا معه فيها. ويبدو أن ابن حزم سار إلى قرطبة بعد إخفاق المرتضى ومقتله عند غرناطة، ويبدو أن ابن الخليفة بقرطبة يومئذ القاسم بن حمود، فدخلها (409/ 1019) وبقي فيها حتى لاحت الفرصة بمبايعة عبد الرحمن بن هشام الناصري الذي لقب بالمستظهر (414/ 1027) فقرب إليه ابن حزم وابن عمه أبا المغيرة وابن شهيد، لكن هذه الخلافة لم تدم أكثر من سبعة وأربعين يوماً، وبويع المستكفي فاعتقل ابن حزم وغيره من رجال المستظهر وسجنهم، ثم نراه سنة (417/ 1026) في شاطبة، ولعله استوطنها قبل ذلك بقليل. وفي ذلك العام جاء إليه صديق من المرية (1) ونزل ضيفاً عنده بشاطبة، فلم يمض إلا وقت قصير حتى نشبت الفتنة بين أبي الجيش مجاهد العامري وخيران العامري (وكان ذلك سنة 417) فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب " وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل " فاشتد الكرب
__________
(1) أقدر أن هذا الصديق هو الذي كتبت له رسالة طوق الحمامة.
(1/38)
--------------------------------------------------------------------------------
بصديقه لأنه حيل بينه وبين العودة إلى هوى له بالمرية (1) . ويقول ياقوت نقلاً عن صاعد الأندلسي إن ابن حزم وزر للمعتد بالله هشام بن محمد (2) ، ونحن نعلم ان أهل قرطبة أرسلوا بيعتهم إلى هشام وهو في البونت (البنت) في ربيع الآخر سنة 418 ثم انتقل إلى قرطبة سنة 420، فإذا كان ابن حزم قد وزر له أولاً فقد انتقل إلى البنت وإذا كان قد وزر له بعد ذلك فقد انتقل إلى قرطبة، ولكن الرسالة كتبت في شاطبة، ولابد ان يكون ذلك قد تم في وقت ما بين سنتي 417 - 418، ومما يزيد الأمر تحديداً قول ابن حزم، في حكم بن المنذر بن سعيد البلوطي: " وحكم المذكور في الحياة حين كتابتي إليك بهذه الرسالة، قد كف بصره وأسن جداً " وقد ذكر ابن بشكوال نقلاً عن ابن مدير ان وفاة حكم كانت في نحو سنة عشرين وأربعمائة (3) ، وهذا يعني أن وفاته تمت في 418 أو 419 أو أوائل سنة عشرين وأربعمائة (4) .
ولا أعلم أن ابن حزم أشار إلى هذه الرسالة في سائر كتبه ولكن النقول القليلة التي وردتنا منها (وخاصة في روضة المحبين لابن قيم الجوزية، على تباعد في الزمن) تؤكد اسم الرسالة ونسبتها إلى ابن حزم فإذا كان التاريخ الذي قدرناه لتأليف الرسالة صواباً أو قريباً من الصواب، كان ابن حزم عندما كتبها في حدود الرابعة والثلاثين من عمره، وكان قد حصل ضروباً من الثقافات فيها الفقه والحديث - على أساس ما يظهر جلياً في هذه الرسالة - والمنطق والفلسفة والنجوم، ونظر في التوراة، وشهر بقوة عارضته في الجدل، وبالتفنن في ضروب مختلفة من الشعر، ولكن الطابع العقلاني يزاحم في شعره قوة العاطفة ويتغلب على المجال التصويري.
__________
(1) طوق الحمامة: (باب البين رقم 24 ص 216 - 217).
(2) معجم الأدباء 12: 237 وسقط هذا من ترجمة ابن حزم في طبقات الأمم: 76 ثم أضيف اعتمادا على احدى النسخ الخطية (ص: 116 وتصحف المعتد إلى المقتدر).
(3) الصلة 1: 146.
(4) انظر طه الحاجري: ابن حزم، صورة أندلسية: 153 - 154.
(1/39)
--------------------------------------------------------------------------------
4 - دواعي التأليف:
أحب أن أقول - بداع من إحساس يشبه اليقين - أن رسالة " طوق الحمامة " بدأت تسلية لصديق ذي ود صحيح لابن حزم، كان يستوطن المرية - ولعله حلها بعد تفرق القرطبيين في الفتنة - . وفي موطنه الجديد، نشب القرطبي المهاجر في براثن حب آسر، على غير ما تسمح به السن (فهو على الأرجح لدة لابن حزم)، أي لم يكن مثل ذي الرمة الذي راهق الثلاثين، بل تجاوزها، وحلمته العشائر (1) ، فكتب إلى صديقه وموضع سره ابن حزم، يسأله في كتاب زادت معانيه على ما في سائر كتبه من قبل، رأيه في هذا الذي نشب فيه، ويتحدث إليه بحديث الحب، ويسأله أن يطب له، فدعا الله بينه وبين نفسه ان لا يكلنا " إلى ضعف عزائمنا وخور قوانا ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا (أو آرابنا) وسوء اختيارنا، وقلة تميزنا، وفساد اهوائنا " ، ولكنه حرك ساكناً وذكر أمراً متصلاً بالصبا والشباب، والجراح لم تكد تندمل، وفيما ابن حزم يقلب وجوه الرأي، إذا بصديقه وقد استبطأ رده يسافر من المرية إلى شاطبة ليلقى صاحبه ويبث إليه ما في نفسه، وما تكاد شاطبة تستقبل ذلك الصديق حتى تقوم القيامة، وتسد في وجهه أبواب العودة إلى المرية، لاشتعال نار الحرب بين مجاهد وخيران، فلا يجد ابن حزم خيراً من قصص من ابتلي بمثل ما ابتلي صديقه، يسليه عما ألم به، ويضرب له المثل بالأئمة الراشدين والخلفاء المهديين، ويذكره بما عرفاه من أحاديث العشاق والمحبين في قرطبة وغيرها، بل يقدم له نفسه نموذجاً عجيباً لتصاريف الحب وشؤونه. وأنا أصدق ابن حزم فيما يقول، لأنه منزه عن تعمد الكذب، حتى وأن كان غيره يتخذ مثل هذه التعلة مدخلاً للتأليف،
__________
(1) من قول ذي الرمة:
على حين راهقت الثلاثين وارعوت ... لداتي وكاد الحلم بالجهل يرجع ويقول (على لسان أخيه مسعود يلومه):
أفي الدار تبكي أن تفرق أهلها ... وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر
(1/40)
--------------------------------------------------------------------------------
فهناك صديق كلفه ان يؤلف " رسالة في صفة الحب ومعانيه وأعراضه وأسبابه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة " ن ولكن من السذاجة أن نظن بان الحافز لذلك كان حافزاً واحداً بسيطاً، وأن امرءاً (فقيهاً) يكتب رسالة في الحب وهو يستشعر " نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطات، وتغير الاخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الايام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع كاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار " - أن امرءاً على هذه الحال إنما اندفع إلى ذلك بتوجيه حافز بسيط بل أقدر انه قد وجد ولابد حوافز أخرى لكتابة هذه الرسالة، وما كانت تسلية الصديق إلا انقداح الشرارة الأولى، التي بعثت الماضي كله حياً في نفسه.
وفجأة انتقل الأمر من تسلية الصديق إلى تعزية النفس: فابن حزم الذي كان في حاضره حينئذ يفكر " في صيانة الأهل والولد " وفي الحصول على الرزق له ولهم، كان يريحه أن يعود إلى الماضي، لأنه لا يمثل الحب وحسب، بل يمثل المجد والجاه والغنى والراحة والحياة الرغيدة ولهو أيام الطلب، ولذة المحادثة مع الأخوان " قبل أن يغيرهم الزمان " ؛ لقد تركته تجاربه الكثيرة بين علو وانحدار يحس بوطأة العمر رغم أنه لم يقطع من حبل العمر إلا نصفه، أصبح " شيخا " في إحساسه، فهو يريد أن يصرف عنه هذا الإحساس؛ وكان شاعراً وجدانياً، وهوذا يتحول متكلماً عقلانيا، فهو يريد أن يخلد شعر فترة الشباب والصبا في كتاب، وهو قد عرف الناس وخبر نفسياتهم، وأدرك مدى سيطرة الحب على نفوسهم، فليس هو وصديقه اثنين من أولئك الناس وحسب، يرضيهما أن يكونا في انسجام مع نماذج عديدة تعرضت لما تعرضا له، بل إن ابن حزم ينفرد عن صديقه ثم عن سائر الناس بأنه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب، وأن يخضعها للدراسة والتحليل، ليتجاوز بها
(1/41)
--------------------------------------------------------------------------------
تسلية صديقه وتعزية ذاته، فتصبح " رصداً " لحركات النفوس وطبيعة العلاقات العاطفية والاجتماعية، أي أن ابن حزم - من خلال تلك النماذج والتجارب - أحس أنه قادر على أن يقوم بدور السيكولوجي الاجتماعي، وذلك كله يتطلب إلى جانب التعمق في الدراسة جرأة على " الاعتراف " وتلك ميزة لم تكن تنقصه أبداً.
فمن حال صديقه وحال نفسه وحال قرطبة (التي تمثل صورة مكبرة لكليهما) وجد الحوافز قوية لكتابة هذه الرسالة، ولعل ابن حزم أحس وهو يكتب رسالته، انه يريد أن يقدم تجربة أو صورة " أندلسية " خالصة، ولعل هذا هو الذي دعاه أن يقول وهو يحدد برنامجه في التأليف: " ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين فسبيلهم غير سبيلنا " فمما لا ريب فيه أن ابن حزم كان خير ثمرة لتلك الحركة الثقافية التي حاول بها الحكم المستنصر بلورة الشخصية الأندلسية في جميع المجالات الثقافية والحضارية، ولذلك كان للأندلس في نفسه - رغم ضياع الدولة الأموية وما حل بالبلاد من تعاسة على يد ملوك الطوائف - وجودها المحدد، وطبيعتها المشخصة، وقد أمدته ثقافته بكثير من تجارب الحب في المشرق، ولكن أين التجربة الأندلسية في ذلك أكاد أقرر أن ابن حزم ما كاد يرسم المنهاج الذي يعمل على أساسه في هذه الرسالة حتى سطعت في نفسه هذه الحقيقة، كما سطعت بعد سنوات عندما كتب رسالته في فضل الأندلس؛ ولذلك فغن هذا البيت:
ويا جوهر الصين سحقاً فقد ... غنيت بياقوتة الأندلس الذي اتخذه بعضهم شعاراً يدل على " أندلسية " ابن حزم (1) ، ليس إلا نقطة صغيرة في بحر ممتلئ بتلك الحقيقة، حتى إن المؤلف ليتابع تجارب أندلسيين اغتربوا، ونادراً ما يتوقف عند تجارب غير الأندلسيين، ولو تأملنا قوله فسبيلهم غير سبيلنا " لوجدنا أن صيغة الجمع هذه هي " سبيلنا "
__________
(1) انظر مقدمة غرسيه غومس على ترجمة الطوق (ص: 52) وسانشت البرنس عند الدكتور الطاهر مكي: دراسات عن ابن حزم ص: 180.
(1/42)
--------------------------------------------------------------------------------
لا تشير إلى طريقة فردية، وإنما تشير إلى طريقة جماعية أندلسية؛ وأرجو ألا يساء فهم هذه الروح لدى ابن حزم وان لا تلتبس بتلك الدعوى التي تشتط في القومية العرقية فترى في ابن حزم نموذجاً إسبانياً في الغضب والوفاء ومواجهة الحسد بل وحتى في الثرثرة، إلى آخر ما هنالك من صفات، تميز الأسباني عن غيره من سائر البشر (1) ، فإن هذه النعرة لاحقة بهذيان الممرورين، وبانتحال المميزات المتوهمة للتغلب على مركبات نقص، كان ابن حزم بريئاً منها، ولله الحمد، وهذا وحده يثبت أنه لم يكن أسبانياً بهذا المعنى الذي يريده له بعض المتهوسين من العرقيين. إنما الذي أطمح إلى توضيحه هنا أن ابن حزم الناشئ في ظل الإسلام والثقافة العربية، المحب للدولة الأموية في الأندلس، المتعلق بوطنه، وحب الوطن من الإسلام ومن الايمان - كان يعتز بذلك الوطن، ويدافع عن فضائله. ولا يجد حرجاً في رسم صورته على حقيقتها، لأنه يحب تلك الصورة، حتى وإن كانت لا تعجب الآخرين، إننا حقاً نجد لدى ابن حزم صورة أندلسية، ولكن من الضروري أن نحذر - قبل المضي قدماً في هذا البحث - من الإسراع إلى الظن بأن الأندلس تتفرد بهذه الصورة، ذلك أن ابن حزم لم يكن يحاول أن يقيم مقارنة بين الأندلس وغيرها، وإنما يرسم ما يراه في صدق ودقة، ولكن الدارس يستطيع من موقف المؤرخ أن ينشئ تلك المقارنة: فلقد نجد ابن حزم يقول: " وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى، ولفت في تطاريف الوشي والخز، وما أشبه ذلك، لتكون تذكرة عند البين. وأما تهادي المساويك بعد مضغها، والمصطكي اثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء (2) فنظن ان هذه عادات أندلسية، وسمات
__________
(1) البرنس في المصدر السابق: 156 وما بعدها.
(2) الفصل الخامس والعشرون (باب القنوع ص: 232).
(1/43)
--------------------------------------------------------------------------------
حضارية خاصة بالأندلس، ولكن نقرأ في الموشى (والاستاذ غرسيه غومس يعرف النص تمام المعرفة) عند الحديث عن حب القيان " وتبعث (أي القينة) إليه بخاتمها وفضلة من شعرها وقلامة من ظفرها، وشظية من مضرابها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضاً عن قبلتها، ومضغة لتخبره عن نكهتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، وطيبته بكفها، وسحته بوتر من عودها، ونقطت عليه قطرات من دمعها وختمته بغالية قد عدل بالعنبر متنها " (1) فندرك أننا نتحدث عن حضارة واحدة، ليس من فرق كبير فيها بين أندلس ومشرق، وإن كان ابن حزم غير مطالب بإجراء هذه المقارنة التي يستطيعها المؤرخ دونه. هذا في وسائل الحضارة وطبيعة العادات المتصلة بها، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى خلجات النفوس الإنسانية، ومدى تقبلها أو رفضها للمؤثرات المختلفة، فابن حزم حين يتحدث عن الحب لا يكاد يختلف عن الوشاء أيضاً حين يقول: " واعلم أن الحب مع ما فيه من المرارة والنكد وطول الحسرات والكمد مستعذب عند أربابه، مستحسن عند أصحابه، حلو لا تعدله حلاوة ولا تعدله مرارة " (2) أو حين يقول: " وأعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصراح والبلاء المتاح لأنه يهين الكريم وبذل العزيز ويدله العاقل " (3) ؛ من غير أن يكون ابن حزم قد اطلع على ما قاله الوشاء أو غيره، دع عنك القول بان ابن حزم إنما قال ما قال لأنه " إسباني " الإدراك والأحاسيس، وكذلك هو الشان في مظاهر أخرى، لا داعي إلى الإطالة بالوقوف عندها.
وليس من الصواب ان ننفي كتاب " الزهرة " من بين تلك الحوافز التي دفعت ابن حزم إلى كتابة الطوق، بل ان نقلل من قيمته في هذه الناحية، كما زعم الأستاذ غرسيه غومس حين يقول: " إنه على الرغم من إشارة نصية بسيطة ومن التوافق في الاتجاهات العاطفية، فإن الطوق
__________
(1) الموشى: 93؛ وانظر بحث الأستاذ غومس في المقارنة بين الموشى وطوق الحمامة.
(2) الموشى: 7667.
(3) الموشى: 69.
(1/44)
--------------------------------------------------------------------------------
لا يكاد يدين للزهرة بشيء، أو إن شئت يدين لها بشيء محدود للغاية. لقد تغربت النظرية " وتأسبنت " وفقدت تكلفها الواضح، وتحذلقها الخنث، وما كان يقال في بغداد نثراً رقيقاً أو شعراً ملتقطاً أخذ ابن حزم يقوله في شاطبة دافئاً وإنسانياً عن نفسه وعن أصدقائه في قرطبة، وأتت العاطفة واللهفة، وهما خاصيتان اسبانيتان، على أسوار التقليد التي تحول دون تدفق النبع " (1) . أما أن ما جاء به ابن حزم كان " دافئاً انسانياً " فذلك لا غبار عليه بل هو عين الحقيقة، وأما أن الطوق، " لا يكاد يدين للزهرة بشيء " فذلك هو الدعوى التي لا تثبت للمناقشة، كما سأبين بعد قليل.
وقبل أن أتقدم لإثبات وجهة نظري، علي أن أقرر أن التأثير لا يعني المحاكاة، فابن حزم لا يحاكي في الطوق كتاب الزهرة، فقد قام بتلك المحاكاة ابن فرج في كتاب الحدائق، حتى كاد يتفوق - أو هو تفوق حقاً - على سلفه المشرقي، وكان ابن حزم يدرك هذه المحاكاة، وينفر منها، في آن معاً، لأنه امرؤ لا يؤمن بالتقليد حسبما يمليه عليه اتجاهه الظاهري ولكنه فيما يبدعه لا يستطيع ان ينجو من التأثر، وبين التأثر والتقليد بون شاسع.
5 - أثر الزهرة في ابن حزم:
ولكن - على كل ما هنالك - كان ابن حزم يرى في ابن داود إماماً ظاهرياً يستحق التقدير، إماماً يكتب في الحب، دون أن يعبأ بنقد المتزمتين، ويستطيع في الوقت نفسه ان يتحول بالحب، رغم العذرية والأفلاطونية والصوفية، إلى مستوى إنساني واقعي، وهذا يعجب ابن حزم كثيراً، ويوافق مشاعره ذات المنزع الظاهري، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يتخلص من تأثير ابن داود، حتى لو حاول ذلك، وهذا التأثير قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً.
__________
(1) طوق الحمامة ترجمة غومس: 66 - 67 والطاهر مكي: 279 - 280، ونقله البرنس انظر ايضاً مكي: 160.
(1/45)
--------------------------------------------------------------------------------
لنقل بادئ ذي بدء ان الزهرة يحتوي فصولاً لا تربطها وحدة في المنهج، وان كل فصل لا يتجاوز رواية شعر متصل بموضوعه، وتعليقات على بعض ذلك الشعر، وان في بعض تلك التعليقات نظرات ذاتية نافذة؛ هذه المواقف كفيلة باظهار تأثر ابن حزم بكتاب الزهرة، فانعدام المنهج أو اضطرابه أوحى لابن حزم بتتبع منهج دقيق، ورواية الشعر دفعته إلى ان لا يستأنس بالموروث الشعري في موضوع الحب، وتلك النظرات النافذة هي ما استغله ابن حزم على نحو يتفق وطريقته ومنهجه، وتلك النماذج الشعرية هي التي قررت لديه " انسانية " تجربة الحب سواء أكانت تلك التجربة أندلسية أم غير ذلك.
ولابد لدارس كتاب الزهرة من أن يتجاوز تلك العنوانات الشعرية المسجوعة إلى الحقائق القائمة تحتها، ليستطيع المقارنة بينه وبين كتاب الطرق، وأن تجاوز أيضاً تبدد الموضوع الواحد في عدة فصول، لكي يرد ما تبدد إلى حيز واحد، يقتضيه المنهج الحزمي الدقيق. وسوف يكتشف أن الكتابين يعالجان موضوعات واحدة من مثل الرقيب، القنوع، الرسول، الواشي، الهجر، السلو الخ وأن كثيراً من الحقائق في هذه الفصول، وضعه ابن داود، وتابعه فيه ابن حزم، مستعملاً كثيراً من لباقته التأليفية، وعقليته المنطقية.
وخير ما يصور هذا الذي نقوله أن نعرض للمقارنات، بين الكتابين في بعض المواضع:
1 - يقول ابن داود (51): والهجر الذي يتولد عن الثقة بالوداد خير من الوصال الذي يقع من غير اعتماد؛ ويقول ابن حزم: ثم هجر يوجبه التدلل وهو ألذ من كثير من الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه.
2 - ويقول ابن داود (136) " الهجر على أربعة أضرب: هجر ملال وهجر دلال وهجر مكافأة على الذنوب وهجر يوجبه البغض
(1/46)
--------------------------------------------------------------------------------
المتمكن في القوب، فاما هجر الدلال فهو ألذ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيبطله مر الأيام والليال، إما بنأي الدار وإما بطول الاهتجار " ويؤسس ابن حزم على هذه القسمة فيجعل الهجر سبعة أقسام منها الأربعة التي عدها ابن داود كما يتحدث عن الهجر الذي يعد مكافأة على ذنب وعن هجر الملال ويحلل هذا الثاني تحليلاً دقيقاً ويورد عليه أمثلة، ويشفق فيما سماه ابن داود " هجر يوجبه البغض " فيتخلص من كلمة بغض، ويستعمل بدلاً من ذلك " الجفاء " و " القلى " واللفظة الأخيرة مبهمة لأنها تعني الهجر، فإذا قلت " هجر الهجر " لم تفد معنى واضحاً.
3 - ويتوقف ابن داود (155) عند السلو الناتج عن الغدر، فيراه غير معيب، لان السالي إنما ينفر عمن خالف شكله، ولكن عليه ألا يشنع بهذا الغدر على المحبوب أو يذيعه عنه، ويعود إلى الموضوع (170) فيرى أن الصبر أحياناً على الغدر يقع لدى بعض المحبين، لأن حالة المحب قد تجاوزت حد العشق إلى الرضى بكل ما يفعله المحبوب ولو كان غدراً؛ أي أن ابن داود لا يقطع برأي وإنما يجيز حدوث السلو أو بقاء الحب مع الصبر؛ ويتعرض ابن حزم أيضاً لظاهرة السلو الناتج عن الغدر فيرى ان السالي غير ملوم، ويحدد موفقه على نحو أدق إذ يلوم من يسبر عليه لأنه يرى ان الغدر لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم " ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذي الحفيظة والسري السجايا من الغدر، فما يصبر إلا دنئ المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة " ؛ ومع مخالفته لابن داود فان الذي مهد له الانطلاق في هذه المخالفة هو ابن داود نفسه.
4 - ويرد ابن داود (163) أسباب السلو إلى: نيل المحب لما أمله، أو لملل بسبب جفاء المحبوب ومخالفته، أو من الغدر المطلوب، أو التأذي من رقيب وحاجب، أو بسبب سعاية واش وعذول ويفرع ابن حزم على هذه الأسس، فيجعل بعض الأسباب ناجماً من قبل المحب: ومنها الملل والرغبة في الاستبدال (وهي تقابل نيل المحب لما أمله وسعيه
(1/47)
--------------------------------------------------------------------------------
لتجديد حب آخر)؛ وبعضها ناجماً من قبل المحبوب: مثل الهجر ونفار المحبوب وجفاء فيه ونزوع إلى الغدر وأخيراً سبب لا يتعلق بالمحب او المحبوب، وهو اليأس بسبب موت أو غيبة منقطعة أو عارض قتل السبب الذي من أجله نشأ الحب؛ وقد عقد ابن داود فصلاً خاصاً للحديث عن الياس، وتحليليه نفسياً وطبياً (1) (وذلك ما لم يتوقف ابن حزم عنده) ولكنه ربطه بالسلو، وأضاف إضافة هامة - لم يستطع ابن حزم معالجتها - حين ربط بين اليأس وبين الانتحار عن طريق ايراده لبعض الحكايات.
5 - ويعقد ابن داود (98) فصلاً للقنوع، يورد فيه نماذج من الشعر، ويعلق عليها بقوله " وكل هذه الأحوال ناقصة عن حد التمام " ؛ ويعد ابن حزم مراتب للقنوع ستاً، يستخلص أحدها من الشعر، فيقول " وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرامي البعيدة. فمنهم من قنع بان السماء تظله هو ومحبوبه.. الخ " ثم يلمح انهم لم يبلغوا غاية التمام - كما فعل ابن داود، فيقول: " ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب ان يجد بعده متناولاً ولا وراءه مكاناً.. " (وذلك هو قنوعه بلقاء محبوبه في علم الله) ولا يخفى تدقيقه هنا في ملاحظة ابن داود، وتأثره بها.
6 - وفي الزهرة فصلان أحدهما في الحجاب (104) والثاني في الوداع (184) وقد جمعهما ابن حزم في حديثه عن البين، فيعد حجب المحبوب ومنعه من لقاء محبه بيناً. وابن داود هنا أدق لأنه قسم الحجاب في قسمين اضطراري واختياري، وجعل الحجب بالقوة سبباً اضطرارياً. وأما الحجاب الاختياري فمنه امتحان المحب للمحبوب والخوف عليه من الرقيب (ابن حزم: ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة) والإشفاق على النفس من العذال، واستيلاء الملال على نفس المحب. ولا
__________
(1) الزهرة 1: 335.
(1/48)
--------------------------------------------------------------------------------
يقف ابن حزم عند بعض هذه الظواهر لأن وضعه الوداع تحت اسم البين جعله يفكر في البين المتأتي عن الرحلة او عن الموت. وقد تنبه ابن داود إلى أن مواقف الشعراء من الوداع متفاوتة، فمنهم من يسارع إلى الفراق تغنماً لساعة الوداع لان فيه " عناقاً وانتظار اعتناق يوم التلاق " ومنهم من يصبر عليه ويتعمد ألا يشهد منظر الوداع إشفاقاً من ألمه؛ وقد فتح الباب بذلك لابن حزم كي يقول: ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا صواب ولا بالأصيل من الرأي فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات.. الخ " .
7 - ويلتقي المؤلفان في كثير من الحقائق العامة التي عرضاها عند الحديث عن حفظ السر والاذاعة (البابان 12، 13 عند ابن حزم؛ والبابان 43، 44 في الزهرة) حتى ليلتقيان في بعض العبارات، فيقول ابن داود في من يطوي سره رغم مضاضة الكتمان " شديد الإبقاء على إلفه " (311) ويقول ابن حزم " وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه " . ويتفقان على أن المحب لا يملك أحياناً إلا البوح بسره لأنه يمتلكه من الوجد ما يغلبه أو بتعبير ابن حزم: " وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب " .
8 - ولا خلاف في ان ابن حزم حين يتحدث عن الحب من أول نظرة وعن الحب بعد المطاولة (الفصلان 5، 6) يعتمد تجارب عرفها عند غيره وفي نفسه، ولكن أصول هذا كله متوفرة في الزهرة (330) حيث يقرر ابن داود أن ما وقع من الهوى بأول نظر كان بقاؤه يسيراً وأما ما كان استحساناً ينمو على مر الأيام فإنه لا يزول - إذا قدر له ذلك - إلا ببطء؛ ويتبنى ابن حزم نفسه هذا الموقف حين يقول " وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا اجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة " ويقول في تصوير المطاولة: " فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً " ويقابل هذا عند ابن داود قوله: كل شيء في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير
(1/49)
--------------------------------------------------------------------------------
ترتيب انحط انحطاطاً طويلاً " (330) أو بقوله في من صعد إلى ذروة المحبة بأول نظرة: " فكلما كان ارتقاؤهم فيها سريعاً كان انحطاطهم قريباً " (335).
9 - وفي باب الوفاء يجيء تأثر ابن حزم بابن داود ناحياً منحى المخالفة، فإذا قال مؤلف الزهرة: " فالمحبوب يكون موفياً لمحبه ويكون غادراً بعهده، والمحب لا يكون موفياً ولا غادراً وإنما يصلح أن يكون المحبوب موفياً وغادراً لأنه يأتيه مختارا " (362) (أما المحب فهو غير مختار إلا إذا زالت المحبة فعندئذ يمكن ان يوصف بالوفاء أو بالغدر)، وجدنا ابن حزم ينطلق إلى النقيض بقوله: " واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب وشرطه له ألزم، لان المحب هو البادي باللصوق والتعرض لعقد الأزمة.. فمن أجبره على استجلاب المقة إن لم ينو ختمها بالوفاء لمن أراده عليها " . ثم يلتقيان بالاشادة بالوفاء مع اليأس وخاصة بعد حلول المنايا، فيجعل ابن داود عنوان الفصل " قليل الوفاء بعد الوفاة اجل من كثيره وقت الحياة " (361) ويردد ابن حزم هذا المعنى فيقول: " وغن الوفاء في هذه الحالة (يعني بعد الوفاة) لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء " (الفصل: 22).
10 - ويتقارب المؤلفان من حيث المنحى العام في المقدمة والخاتمة، فكلاهما في المقدمة يتوجه إلى إلف عزيز، اقترح فكرة الكتاب ويتطرف ابن داود في المقدمة إلى ذكر الأنبياء ومن جرى عله حب منهم، ويخلص إلى القول: " والنبيون عليهم السلام والصالحون من أئمة أهل السلام يجل مقدارهم عن أن تذكر للعوام أخبارهم " (ص: 5)؛ وكان رد الفعل لدى ابن حزم مخالفته في هذا إذ ذكر عددا من الخفاء المهديين والأئمة الراشدين والصالحين والفقهاء " . وهذا باب من تأثير كتاب الزهرة في ابن حزم، أعني مخالفته، إذا لم يقتنع بوجهة نظر صاحبه. وتحرز في بعض المواقف تحرز ابن داود حين قال: " وغنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به
(1/50)
--------------------------------------------------------------------------------
في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم " وبذلك قطع حبل الإطناب في هذا الموضوع. ثم ردد النظرية الفلسفية التي جاء بها ابن داود في الفصل الأول عن الأكر التي انقسمت. وأما الخاتمة فإنها اتجهت عند ابن حزم وجهة دينية أخلاقية، فيها تحذير من المعصية وإشادة بفضل العفة، في فصلين متعاقبين، مؤيدين بالأحاديث النبوية، والشعر الزهدي التخويفي التعليمي. وأما الخاتمة عند ابن داود فلها شأن آخر؛ إذ ليس في كتابه على التحقيق خاتمة؛ ولكن مؤلفاً يبدأ كتابه في ذكر العشق وأحواله ويجعل نصيب هذا الموضوع من كتابه النصف كاملاً، ثم يعد بخمسين باباً آخر يذكر فيها الموضوعات الشعرية الباقية من رثاء ومدح وفخر وهجاء ووصف الخ؛ ثم يجعل الفصول التالية للفصول في الحب مباشرة في تعظيم الله جل شأنه - في ما مدح به الرسول - فيما قاله شعراء الاسلام في أهل بيت النبي، أقول إن مؤلفاً يفعل ذلك إنما كان يحس بتوجيه ديني بعد إذ أحس أنه أسرف في جعل " الحب " يحتل نصف كتابه، ولهذا فمن باب الاعتذار غير المقنع قوله: إنه إنما بدأ بالغزل لان الشعراء تجعل التشبيب في صدر كلامها، وانه لا يريد في تأليفه أن يخرج عن مذهب الشعراء، وانه لا يصلح إذا انقضى ذكر التشبيب بالغزل ان يقدم على أمر الله عز وجل أمراً لوا يرسم بين يدي الأشعار الدالة على عظمته شعراً (1) . أقول: اعتذار غير مقنع لأنه كان في مقدوره ان يضم الأبواب الثلاثة إلى الفصول التي خصصها للثناء والمدح، ولكن قلقه من الإسراف في موضوع العشق حفزه إلى ما يشبه التمحيص أو التكفير، فبادر إلى إيراد فصل فيه ذكر عظمة الله تعالى؛ تماماً كما أحس ابن حزم ان من واجبه التنفير من المعصية والمدح للعفة، لكي لا يظن أن الفصول السابقة ربما أوحت بالبعد عن ذلك.
من أجل ذلك كله يصح القول إن حضور كتاب الزهرة في نفس
__________
(1) انظر الزهرة 1: 273.
(1/51)
--------------------------------------------------------------------------------
ابن حزم وذهنه، كان حضورا دقيقا، وأنا أقدر أنه حفظه في سن صغيرة حتى ظلت ذاكرته تستوعب منه عبارات مطابقة أو مقاربة؛ تأمل قوله: " وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول الفراق أخو الموت فقال بل الموت أخو الفراق " (1) ؛ تجده علق بذاكرته من كتاب الزهرة ثم أنسيه نصاً، فأداه بحسب المعنى، وأصله في الزهرة: " وقد قال الجاحظ: لكل شيء رفيق، ورفيق الموت الهجر، وليس الأمر كما قال بل لكل شيء رفيق، ورفيق الهجر الموت " (2) . ومثل هذا حدث له في إيراد الرأي الفلسفي حول انقسام الأصلي الأرواح الكريه، وقد ذكرت لك من قبل. فهذا التباين بين النص الأصلي والاقتباس لا يفسره إلا ان ابن حزم حين كان في شاطبة يكتب " طوق الحمامة " لم تكن لديه نسخة من كتاب " الزهرة، وإنما كان يستعيد بعض ما علق منه بذاكرته، وسنرى أثر كتاب " الزهرة " حتى في المنهج الذي بنى عليه كتابه.