الأدلة
لوقف النزاع في المساجد بسبب القبلة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرورأنفسنا ، ومن سيئات أعمالنامن يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
) ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمو ن( آل عمران: (102) .
) ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيـرا و نساء واتقوا الله الذي تّسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء : (1 ) .
)يا أيـها الــذين آمنوا اتـقـوا الله وقـولوا قـولا سـديـدا يـصلح لكم أعمالكم ويـغفر لكم ذنـوبكم و من يطـع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما( الأحزاب :(50/51).
أما بعـد:
فان أصدق الحديث كلام الله وخيرالهدي هدي محمد e ،وشر الأمورمحدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
استقبال القبلة :
قبلة المسلمين هي الكعبة المشرفة ، التي هي عنوان توحيدهم ووحدتهم ومتجه أنظارهم ، وملتقى قلوبهم وأراوحهم .
وقد جعل الله هذه الكعبة قياما للناس في أحوال دينهم ودنياهم ، وأمنا لهم عند الشدائد ، يجدون في ظلها الطمأنينة والأمن والإيمان ، وبقاؤها تُحج وتزار هو علامة بقاء الدين وقيامه وبقاء الأمة على خير ، وهدمها هدم للدين ، وذهاب للأمة ،ولا شك أن للقبلة في نفوس المسلمين مكانة عظيمة ، إذ يتجهون إليها في صلواتهم المفروضة والنافلة وأنساكهم كذلك،ولا يختلفون في هذا بل أجمعوا عليه قال الشيخ العلامة الألباني في كتابه الفريد صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ص55] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقبل القبلة في الفرض والنفل .. قال عقبه : وهذا لاشك أنه مقطوع فيه لتواتر الأدلة على ذلك .
ونقل غير واحد من العلماء الإجماع على ذلك ، انظر الشرح الممتع للشيخ العتيمين [ج1/ 501] وتسير العلام شرح عندة الأحكام لشيخنا عبد بن عبد الرحمن البسام .
لكن استقبال القبلة وإصابة عينها لمن كان بعيدا عنها من أهل البلدان الإسلامية أصبح مشكلا كبيرا في كثير من المساجد عندنا في الجزائر وفي كثير من بلاد الإسلام حيث انقسموا إلى طوائف ، بعضهم يقول نصلي هكذا وهذه هي جهة عين القبلة ، وبعضهم ينكر ذلك ، ويقول : بل القبلة من هاهنا ونكتفي بالتوجه إلى جهتها... وبقي النزاع قائما وهجر الكثير منهم المسجد بسبب أن المسجد بني منحرفا في نظرهم عن عينها، والبعض الآخر أراد أن يجمع بين الفريقين ، فسنوا شيئا آخر وهو أن يستقبل الإمام القبلة ، والبقية ممن يصلي وراءه يصلون إلى الاتجاه الذي وضع فيه المسجد
وزاد البعض الآخر خطا في الأرض للمأمومين وحرفوه قليلا إلى اتجاه القبلة التي تنازعوا فيها،بعد رصدهم القبلة بهذه الآلات الاصطناعية بما يسمى البوصلة ، هذا النزاع الشديد الذي وصل إلى حد التقاتل في كثير من المساجد بين المصلين عموما ، بعضهم مع بعض وبين السلفيين وبعض عوام الناس أو بعض الحزيبيين خصوصا ، سببه ضيق عطن بعضهم ،وعدم الرجوع إلى العلماء ،وإذا حدث وأن رجع بعضهم إلى طائفة من العلماء فالبقية الأخرى لم يرضوا بفتاوى أولئك العلماء المرجوع إليهم، ولا حول ولاقوة إلا بالله ، وهذا هو عين التعصب الذي ينبغي تركه ، وإلا فالسني يكفيه دليل واحد من أي كان ممن جاء به فكيف بالعلماء الذين أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى :{{ ...وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرمنكم }}فأولوا الأمر منا هم العلماء والأمراء ، وعدم الرجوع إليهم ، أو عدم قبول قولهم هو عين الضلال واستكبار ، لهذا كله أردت أن أشارك في هذه المسألة بهذا البحث المتواضع الذي ليس لي فيه إلا الجمع والنقل إلا ما تطلب إلى زيادة بسط او توضيح ، لعله يكون سببا في القضاء على كثير من النزاع القائم أو يقلله إلى حد الخلاف المستساغ الذي لا يفسد للود قضية ، ويجمع الشمل ، ونتجاوز بذلك هذه المحنة والبلاء الذي تسبب فيه التعصب ، والجهل ،والتجرأ ، والاندافع بالتعالم في كثير من الأحيان والأحوال.والله أسأل يوفقنا وإخواننا جميعا لمرضاته والوقوف عند حدوده ،
استقبال الكعبة:
لاشك أن استقيل القبلة وهي- الكعبة - شرط من شروط الصلاة ،وليس في هذا خلاف بين أهل الإسلام ، كما ذكرت آنفا فيجب على المصلي أن يتوجه بوجهه وبدنه نحو الكعبة ، ثبت ذلك بالكتاب والسنة . فلا خلاف بين العلماء في استقبال القبلة ،ولكن الخلاف في كونها شرط صحة أو شرط وجوب ، والذي رجحه كثير من المحققين كصديق حسن خان في الروضة ، والشوكاني في نيل الأوطار ، والصنعاني ، والشيخ الألباني رحمهم الله أنها أنه شرط وجوب وليست شرط صحة . وهذا ليس موضوع بحثنا ، لذلك نتجاوزه إلى الأدلة على استقبال القبلة وكيف كانت ثم نأتي إلى بيت القصيد وهو هل استقبال القبلة لمن كان بعيدا عنها فرض عليه استقبال جهتها أم عينها ؟وهي المسألة التي طال فيها النزاع كما أشرت ، وهنا سأنقل بعض الأدلة على استقبال القبلة وأنها إلى بيت الله الحرام – الكعبة – بعد أن كانت إلى بيت المقدس ثم أتطرق إلى المسألة التي من أجلها كان هذا المسطور ، وهي إصابة عين الكعبة أم جهتها لمن كان بعيدا عنها .
أما الكتاب فقوله تعالى :{{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }}فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجه أن تكون قبلته قبل البيت [ أي الكعبة ]...[ح4486]واللفظ له .
وقوله تعالى :{{ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }} [ البقرة :144]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ،فأمره أن يستقبل بيت المقدس ،ففرحت يهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله :{{ قد نرى تقلب وجهك ...}}.
إلى قوله :{{ فولوا وجوهكم شطره }}فارتابت من ذلك اليهود وقالوا : {{ ما ولاهم عن قبلتم التي كانوا عليها }}فأنزل الله :{{ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }}وقال سبحانه : {{ فأينما تولوا فثم وجه الله }}البقرة :115].
قال الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب [ج1/836]: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه ، وبعدما هاجر إلى المدينة صلى ستة عشر شهرا ، ثم انصرف إلى الكعبة .
الحديث من روية ابن عباس رضي الله عنهما ، أخرجه الإمام أحمد [ج1/325]ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس به.وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين وسكت عليه الحافظ في الفتح [1/399]وقال الهيثمي في المجمع [ج2/12]رواه أحمد والطبراني في الكبير ، والبزار ورجاله رجال الصحيح ، وقد أخرجه البيهقي [ج2/3] من هذا الوجه.
وأما السنة وهي كثيرة مستفيضة فأقتصر على بعض منها : ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد انزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة . فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .البخاري [ح 403 – 4488 -4491 ] ومسلم [ج2/ 5 / 10].
وفي البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : <<من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته >> [ح391-392- 393].
وفيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< امرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا ، وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .[ح392].
هذه بعض الأدلة على استقبال القبلة وكيف كانت ،وغبها أن استقبال القبلة بالصلاة والنسك من صفات المسلم الذي يحرم دمه وماله وتجب له ذمة الله وذمة رسوله ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة والجماعة كما ذكرت ،ولكن الخلاف هو في استقبال جهتها أم عينها لمن كان غائبا عنها لا يراها .وهذا الذي يعنينا في الموضوع ، وهي التي نريد أن نحررها فنقول وبالله تعالى التوفيق :
قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى:{{فول وجهك شطر المسجد الحرام}} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله:{{ فولّ }}أمر{{ وجهك شطر}}أي ناحية{{المسجد الحرام }}يعني الكعبة ولا خلاف في هذا . قيل : حيال البيت كله ، عن ابن عباس ، وقال ابن عمر : حيال الميزاب من الكعبة ، قاله ابن عطية ، والميزاب هو قبلة أهل المدينة وأهل الشام ،وهناك قبلة أهل الأندلس .
قلت:أي القرطبي : قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: << البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها >>.قلت : وذكره البغوي في شرح السنة [ج2/330] وقال عقبه : وهو قول مالك رحمه الله .
الثانية : قوله :{{ شطر المسجد الحرام }} الشطر له محامل ، يكون الناحية والجهة ،كما في هذه الآية وهو ظرف مكان كما تقول : تلقاءه وجهته . وقال داود بن هند إن في حرف ابن مسعود << فول وجهك تلقاء المسجد الحرام >> قال الشاعر :
أقول لأم زنباع أقيمي *** صدور العيس شطر بني تميم
الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق ، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها ، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له ، أي صلاته باطلة ، وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها...
الرابعة : واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة ، فمنهم من قال بالأول .يعني فرض استقبال عينها .
قال ابن العربي رحمه الله في كتابه الأحكام عند هذه الآية : وهذا القول ضعيف لأنه تكليف بما لا يصل إليه ، لأنه غير ظاهر بل غائب .
قلت : وتضعيف ابن العربي لهذا القول صحيح موافق لمقاصد الشرع ، منها قوله تعالى : {{ لايكلف الله نفسا إلا وسعها }}، ومنها قوله تعالى :{{ ما جعل عليكم في الدين من حرج }}.
ومنها فعله صلى الله عليه وسلم حيث <جمع في المدينة بين الصلاتين من غير خوف ولا سفر> < وفي رواية من غير خوف ولا مطر> فقيل لابن عباس لماذا فعل ذلك ؟ قال لرفع الحرج عن أمته . رواه مسلم .
قال القرطبي رحمه الله : ومنهم من قال : يستقبل الجهة يعني جهة المسجد الحرام وهو الصحيح لثلاثة أوجه :
الوجه الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف .
قلت : إذ لاتكليف إلا بقدرة ، وهذا لايقدر على استقبال عين الكعبة ، أما الإعتماد على الآلات المحدثة مما يسمى البوصلة فلا يجوز الاعتماد عليها لما فيه من التضييق والمشقة على المسلمين إذ لايمكنهم جميعا امتلاكها ولا معرفة العمل بها ... ويمكن أن تكون غير دقيقة ، وأنها من صنع الكفار وعدالتهم ساقطة ، فإذا كان الأصل في الراوي المسلم الجهالة حتى تثبت عدالته فكيف بكافر لايدرى عينه يخترع أمرا يقاس عليه أمرا معلوما من الدين بالضرورة ، هذا لايجوز ولا يصح الأخذ به ، وقد نقل الباجي في المنتقى شرح الموطأ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وصجيق حسن خان في الروضة الإجماع على عدم جواز الاعتماد في العبادات على الحساب الفلكي والآلات الفلكية ، ونقلت عنهم ذلك في رسالتي كشف الإلتباس عن وقت صلاة الصبح للناس.
الوجه الثاني : أنه المأمور به في القرآن الكريم لقوله تعالى :{{ فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم }} يعني من الأرض من شرق أو غرب ، فولوا وجوهكم شطره .
الوجه الثالث : أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت أحكام القرآن للقرطبي [ج2/ 159 – 160].
قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد[موسوعة شروح الموطأ[ج6/521-524]:وكذلك يشهد النظر لقول من قال في المنحرف عن القبلة يمينا أو شمالا ، ولم يكن انحرافه ذلك فاحشا فيشرّق أو يغرّب أنه لاشيء عليه ، لأن السعة في القبلة لأهل الآفاق مبسوطة مسنونة ، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه رضي الله عنهم :<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >> وسيأتي تخريج هذا الأثر- إن شاء الله - ثم ذكر ابن عبد البر رحمه الله طرق هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى من صح من الصحابة نسبته إليهم ، فقال حدثنا سعيد بن نصر وبسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >> أخرجه ابن أبي شيبة [2/362]والترمذي [344] من طريق معلى بن منصور به ،وأخرجه الطبراني في الأوسط [790]من طريق عبد الله بن جعفر به .
وبسنده إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه :<< ما بين المشرق والمعرب قبلة >>أخرجه عبد الرزاق [3633 -3634]وابن أبي شيبة لأج2/361-362]والبيهقي [ج2/9]من طريق عبيد الله بن عمر وينظر علل الدارقطني [2/31-33].
وبسندة إلى محمد بن فضاء عن أبيه عن جده قال سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول :<<كيف يخطئ الرجل الصلاة وما بين المغرب والمشرق قبلة ما لم يتحر الشرق عمدا >>.
وبسنده إلى أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: << ما بين المشرق والمغرب قبلة >> أخرجه ابن أبي شيبة [2/362]من طريق اسرائيل به بزيادة عامر الشعبي بين عبد الأعلى وبين أبي عبد الرحمن .
وبسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وعبد العلى عن محمد بن الحنفية قالا :<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >> أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إسرائيل به مقتصرا على قول ابن عباس .
وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد بم حنبل – يقول: هذا في كل البلدان . قال وتفسيره أن هذا المشرق – وأشار بيساره – وهذا المغرب – وأشار بيمينه .قال: وهذه القبلة فيما بينهما ، وأشار تلقاء وجهه ، قال : وهكذا في كل البلدان إلا مكة عند البيت .ألا ترى أنه إذا استقبل الركن وزال عنه شيئا –وإن قل –فقد ترك القبلة ؟ قال: وليس كذلك قبلة البلدان .
قيل لأبي عبد الله :فإن صلى رجل فيما بين المشرق والمغرب ، ترى صلاته جائزة ؟ قال نعم صلاته جائزة إلا أنه ينبغي له أن يتحرى الوسط .وقيل لأبي عبد الله .قبلة أهل بغداد على الجدي ؟- وهو نجم في السماء –
فجعل ينكر الجدي ويقول ليس على الجدي ،ولكن على حديث عمر :<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >>.
وقال ابن عبد البر رحمه الله :أخبرني عبد الرحمن بن يحي ويحي بن عبد الرحمن قالا : حدثنا
أحمد ابن سعيد قال:قال لنا أحمدبن خالد في قول عمر بن الخطاب :<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >> في هذا سعة للناس أجمعين . قيل له أنتم تقولون : إنه في أهل المدينة . قال : نحن وهم سواء ، والسعة في القبلة للناس كلهم .
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار [موسوعة شروح الموطأ [ج6/527]:أما حديث مالك في هذا الباب عن نافع أن عمر بن الخطاب ، قال : << ما بين المشرق والمغرب قبلة >> إذا توجه قبل البيت ، فقد وصله عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : عمر ...به وتقدم تخريجه .
قال : وكذلك قال عثمان بن عفان ،وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ،ومحمد بن الحنفية [رضي الله عنهم] وقد ذكرنا أسانيد عنهم في التمهيد . ونقل هذه الأقوال عنهم البغوي رحمه الله في كتابه شرح السنة [ج2/ 328].
وقال: وأما تفسير قول أحمد بن حنبل : هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها من السعة في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلته بالمدينة الجنوب ،التي تقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المغرب والمشرق ، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم وكذلك يكون لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب ، إذا توجهوا أيضا قبل البيت ، إلا انهم يجعلون المشرق عن أيمانهم ، والمغرب عن يسارهم ، وكذلك أهل العراق وخرسان لهم السعة في استقبال القبلة بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة بين المشرق والمغرب ، وكذا أهل العراق على ضد ذلك .
وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام ، وهي لأهل مكة أوسع قليلا ، ثم لأهل الحرم أوسع قليلا ، ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا .وهذا صحيح لا مدفع له ، ولا خلاف بين أهل العلم فيه .
قلت : يؤيده ما أورده القرطبي بقوله قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: << البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها >>.فإن صح هذا فهو نص في موضع الخلاف ، فلا نحتاج إلى قول أحد بعده .
قال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب [ج2 /847 – 851] : وأما من كان غير مشاهد لها ولم يعرف موضعها فيكفيه أن يستقبل الجهة التي هي فيها لقوله تعالى :{{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }} وقوله عليه الصلاة والسلام : << ما بين المشرق والمغرب قبلة >>. الحديث من رواية أبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
أما الأول :فأخرجه الترمذي [2/171] وابن ماجة [1/317]من طريق أبي معشر نجيح عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعا به . وأبو معشر ضعيف ، قال الترمذي : وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه .
قلت: أي الشيخ الألباني :لكنه يتقوى بمتابعة غيره له بإسناد آخر ، فقال الترمذي [ج2/173] ثنا الحسن بن أبي بكر المروزي ثنا المعلى بن منصور ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن
محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا به . وقال :حديث حسن صحيح ، قال البخاري :هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح .
قلت : أي- الشيخ الألباني :ورجاله ثقات غير شيخ الترمذي : الحسن بن أبي بكر ، كذا هو في السنن ، حتى في النسخة التي صححها أحمد شاكر القاضي ، وهو خطأ والصواب الحسن بن بكر بحذف لفظة [ أبي ] كذلك هو في كتب الرجال ، ك [ التهذيب ]و[ التقريب ]و[ الخلاصة].
وهو الحسن بن بكر بن عبد الرحمن المروزي أبو علي نزيل مكة ، وقال مسلمة : [ مجهول ] كما في[ التقريب ].وذكر فيه جمعا من الثقات رووا عنه ، وكأنه لذلك قال في [ التقريب ]:[ إنه صدوق ].والله اعلم .
وبالجملة ، فالحديث بهذين الطريقين حسن ، وهو صحيح بشاهديه ، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهم . وله طريقان أيضا :
الأول : عن يزيد بن هارون : اخبرنا محمد بن عبد الرحمن المجبر عن نافع عنه مرفوعا به .أخرجه الدارقطني [101] والحكام [1/ 206] وعنه البيهقي [ 2/9] وقال الحاكم : [ صحيح ، وإبن مجبر ثقة ]. ووافقه الذهبي .
وهو عجيب منه ، فإنه قد أورد في[ الميزان ] ابن مجبر هذا ، ونقل أقوال الأثمة في تضعيفه ، ولم يحك ولا قولا واحدا في توثيقه ، وأقره الحافظ في [ اللسان ] ، وذلك يدل على انه ضعيف اتفاقا وان توثيق الحاكم له مما لايعتد به .
لكن قد تابعه عبيد الله بن عمر عن نافع به .أخرجه الدارقطني ، وعنه الضياء المقدسي في [ المختارة ] ، والحاكم [1/ 205] وعنه البيهقي من طريق أبي يوسف يعقوب بن يوسف الواسطي : ثنا شعيب بن أيوب : ثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر به .
وقال الحاكم : [ صحيح على شرط الشيخين ، فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده ]. ووافقه الذهبي أيضا .
قلت : أي الشيخ الألباني : ولكن شعيبا لم يخرج له أحد الشيخين ، وإنما هو من رجال أبي داود فقد ، وهو صدوق يدلس كما في [ التقريب ] وقد صرح بالتحديث كما ترى ، فالإسناد صحيح إن كان الراوي عنه يعقوب بن يوسف الواسطي ثقة ، فإني لم أجد له ذكرا في كتب الرجال التي عندي.وقد قال البيهقي بعد أن ساقه من طريقين :[ تفرد بالأول ابن مجبر ، وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال ، والمشهور رواية الجماعة حماد بن سلمة ، وزائدة بن قدامة ، ويحي بن سعيد القطان ، وغيرهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله .قال: وروي عن أبي هريرة مرفوعا ، وروى يحي بن أبي كثير عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
قلت : فهذا شاهد آخر مرسل . ثم قال البيهقي :[ والمراد به – والله أعلم – أهل المدينة ومن كان قبلته على سمت من أهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب ، وذلك ينطبق على من كان في الشمال والجنوب ، وأما من كان في الشرق والغرب فقبلته ما بين الشمال والجنوب .
وقال الصنعاني :في سبل السلام :والحديث دليل على أن الواجب استقبل الجهة لا العين في حق من تعذر عليه العين ، وقد ذهب إليه جماعة من العلماء لهذا الحديث .
قلت :أي الألباني وعليه علماؤنا الحنفية ، قال في المجموع :[3/ 208- 209]: وحكاه الترمذي عن عمر بن الخطاب ، وعن علي ابن أبي طالب وابن عباس ، وابن عمر ، وابن المبارك .
وقد نقل القرطبي في تفسيره : [2/160] إجماع العلماء على ذلك ،وفيه نظر ، فقد ذكر النووي أن الصحيح عند الشافعية أن الواجب إصابة عين الكعبة .
قال : وبه قال بعض المالكية ، ورواية عن أحمد .
قلت :أي الألباني : وهذا مخالف للمنقول عن الصحابة ولهذا الحديث . ثم قال الصنعاني : ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن كان في حكمه ،لأن المعاين لاتنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء، متى قابل العين أو شطرها.
وقال العلامة أبو الطيب صديق حسن في الروضة الندية [ص 83-84] ما نصه : أقول : استقبال القبلة هو من ضروريات الدين ، فمن أمكنه استقبل القبلة تحقيقا فذلك الواجب عليه ، مثل القاطن حولها ، المشاهد لها من دون قطع مسافة ولا تجشّم مشقة ، ومن لم يكن كذلك ففرضه استقبال الجهة ، وليس المراد من تلك الجهة على الخصوص ، بل المراد ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من كون بين المشرق والمغرب قبلة ، فمن كان في جهة اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب توجه بين الجهتين ، فإن تلك الجهة هي القبلة ، وكذلك من كان بجهة الشام يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات .
وبوب البغوي رحمه الله في كتابه العظيم شرح السنة [ج2/327] : باب قبلة من غاب عن مكة :
ثم استدل بقوله تعالى : {{ وحيث ما كنتم فولوا وجوهم شطره }}[ البقرة : 144] وبسنده إلى أبي هريرة من طريق الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:<< ما بين المشرق والمغرب قبلة >> مضى تخريجه قريبا.
قلت : وهذا يؤيده قوله تعالى :{{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }}فقوله : فثم وجه الله : حكى المزني عن الشافعي رحمه الله أنه قال في هذه الآية : فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه .وقال مجاهد : فثم وجه الله : أي قبلة الله .شرح السنة للبغوي [ج2/327].
قال ابن الثيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة [ج2/30 -32] تحت عنوان الحِكم البالغة في القبلة وتحويلها : ثم أن له المشرق والمغرب ، وأنه سبحانه لعظمته وإحاطته حيث استقبل المصلي فثم وجهه تعالى فلا يظن الظان أنه إذا استقبل البيت الحرام خرج عن كونه مستقبلا ربه وقبلته ، فإن الله واسع عليم .ثم ذكر حكما دقيقة رائعة ، انفرد بها عن غيره من أهل العلم ،رحمه الله تعالى ، فيما اطلعت عليه ، فهو مبحث ماتع ، فأنظره غير مأمور ،إن أردت أن تعلم الحِكم في تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام وتستفيد منها .موسوعة الأعمال الكاملة لابن القيم ، جامع الفقه ، ليسرى السيد [ج2/189 -191].
قال البغوي : والتوجه إلى عين الكعبة واجب لمن كان بمكة ، أما من غاب عنها فإن كان في بلد أو قرية اتفق أهلها المسلمون على جهة ليس له أن يجتهد في الجهة فيها بل عليه أن يتوجه إلى الجهة التي اتفقوا عليها .وليس له أن يجتهد في الانحراف يمنة أو يسرة .
قلت : فكيف إذا عيّنها ولي الأمر واجتهد أهل الحل والعقد في إقرارها ومضى على ذلك أجيال وأجيال ، ثم يأتي من يشكك للمسلمين في قبلتهم الواسعة ، هذا خروج على الإمام وعلى هذه الأجيال كلها ، وهو عين الفتنة فاحذروها .
وجاء في زاد المستقنع قوله : وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها ، ومن بعُد جهتها :قال الشيخ العثيمين في الشرح الممتع [ج1/ 507] وقوله : من بعُد جهتها ، أي من بعد عن الكعبة بحيث لايمكنه المشاهدة ،فعليه إصابة الجهة ، والجهة حددها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : <<لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا >>.متفق عليه لما قال شرقوا أو غربوا يريد بذلك عكس القبلة ، وعلى هذا يكون ما بين المشرق والمغرب لأهل المدينة ومن كان في جهتم كله قبلة ، فالجنوب كله قبلة لهم ، ليس قبلتهم ما ساوى الكعبة فقط وبهذا نعرف أن الأمر واسع لأهل البلدان الذين غابوا عن الكعبة ولايمكنهم معاينتها ولو رأينا شخصا يصلي منحرفا يسيرا عن مسافة القبلة فإن ذلك لايضر لأنه لم يزل متجها إلى جهة القبلة ، مالم يتعمد ترك جهة القبلة .
وجهة القبلة لمن كان شمالا عن الكعبة ما بين المشرق والمغرب ، ولمن كان شرقا عن الكعبة ، ما بين الشمال والجنوب ، ولمن كان غربا عنها ، ما بين الشمال والجنوب ، ولمن كانوا جنوبا عن الكعبة ما بين المشرق والمغرب فالجهات أربع وهذا مقتضى الحديث .
قلت: فأين الذين يتكلفون ما ليس في وسعهم مما لم يكفهم الله به ، في أمر جعل لهم فيه سعة ، ورفع عنهم فيه الحرج ،وهذه أدلة العلماء وأقوالهم تكاد تكون متطابقة متآلفة غير مختلفة ، فليتقوا الله وليعود إلى الحق ،ولا يتعصبوا – لا نقول للباطل- وإنما للأمر المرجوح .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وادفع عنا التعصب المقيت ، وطهر قلوبنا من الحسد والبغضاء ، ولاتزغ قلوبنا بعد إذ هدينتا إنك سميع عليم مجيب .
وصلي اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد المبعوث بالرحمة والألفة ، وعلى أله الأطهار وصحبه الأخيار وعلى من تبعهم بإحسان من عبادك الأبرار وعنا معهم بعفوك وكرمك يا عزيز يا غفار وسلم تسليما كثيرا إلى دار القرار .
وكتبه:
محب العلم والإنصاف *** على طريقة صالح الأسلاف
أبو بكر يوسف لعويسي
الدويرة الجزائر العاصمة [25/1/ 1431هـ
الموافق ل:11/ 1/ 2010م