حال المرأة من خلال طوق الحمامة:
هل يمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن وضع المرأة عامة من خلال الطوق قد كان من الممكن أن تسعفنا هذه الرسالة على تكوين صورة دقيقة لنفسية المرأة ووضعها الاجتماعي بحيث تتجاوز الصورة ما ألف عن الانطباعات العامة، لأن مؤلفها قد علم من أسرار النساء ما لا يعلمه غيره، فهو قد ربي في حجورهن، ولم يجالس سواهن حتى أصبح في حد الشباب، وهن اللواتي علمنه القرآن وروينه كثيراً من الأشعار ودربنه في الخط، وكان همه منذ الطفولة ان يتعرف إلى أسبابهن ويبحث عن أخبارهن، مع ذاكرة لا تنسى (2) ؛ ولكنه يعترف أنه طبع على غيرة شديدة، وسوء ظن في المرأة (3) ، بحيث لا يصلح أن يكون شاهداً موضوعياً مجرداً من التحيز، وثمة شيء آخر وهو أن الطوق يتحدث عن العلاقات العاطفية ولا يتجاوزها إلا قليلاً، ولهذا السبب ستكون صورة المرأة فيه محدودة، في إطار ذلك الموضوع، ومع ذلك فإنها رغم ذلك هامة.
وأول ما يلفت النظر ان المرأة الحرة كانت في الأندلس مقصورة تعيش خلف حجاب غليظ، وخاصة في الأسر الغنية، ولعلها تشبه في ذلك أختها في المشرق، وأما ما نلمحه من حرية في الحركة فيكاد يكون مقصوراً على الجواري، ولكن المرأة الحرة في تلك الأسر كانت ذات
__________
(1) باب الوفاء (رقم: 22 ص: 208).
(2) الباب: 17 (المساعد من الاخوان: 166).
(3) انظر ما تقدم، وكذلك الباب: 29 (باب قبح المعصية: ص 272).
(1/70)
--------------------------------------------------------------------------------
سيطرة وقدرة على التصرف، وهي محفوفة بالخدم والحشم. وقد أحدث ذلك الحجاب الغليظ لدى النساء يقظة عاطفية على الأصوات المسموعة والصور المتخيلة، حتى ميزهن ابن حزم بالضعف في هذه الناحية، لسرعة إجابة طبائعهن إلى الهيام عن طريق التخيل (1) . ولكن الحجاب نفسه، ولأسباب أخرى في البنية الاجتماعية أصبح السفير بين العاشقين ذا دور هام، ولكن المرأة تتفوق على الرجل في هذه الناحية، خاصة إذا كانت عجوزاً، ولذلك كان أرباب الأسر بقرطبة يحذرون الفتيات الناشئات من النساء ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين (2) .
وأكبر عامل يصنع الفرق بين الرجال والنساء ويمتد اثره إلى المناحي المختلفة في طبيعة كل منهما هو الفرق في العمل وأنواع النشاط، فالرجال مشغولو النفوس والعقول بجمع المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض (3) ، ومثل هذه الأمور لا تترك للرجل مجالاً كبيراً أو وقتاً كثيراً للانسياق وراء العواطف؛ أما المرأة فهي متفرغة لا تعنيها هذه الشؤون العنيفة وربما لم تطقها، ولهذا يظل خيالها مشدوداً إلى شؤون الغزل وما يتعلق به، ومن ثم كانت النساء أكثر تعاطفاً مع المحبين وأكثر إسعافاً لهما، فهن يكتمن الاسرار، ويمقتن من تفشيها منهن، وأشدهن في الكتمان العجائز منهن، لان الفتيات ربما أدركتهن الغيرة فبحن بالسر، وهن يتلذذن بالتضحية في سبيل إسعاد محبين، بل أحب الأعمال إلى امرأة صالحة مسنة منقطعة الرجاء من الرجال ان تسعى في تزويج يتيمة أو تعير حليها أو ثيابها لعروس فقيرة (4) ، ويبدو ان هذا النوع من النساء إنما ينتمي إلى طبقات ميسورة، إذ ليس كل النساء
__________
(1) باب من احب بالوصف (رقم: 4: 117).
(2) باب السفير (رقم: 11: 141 - 142).
(3) باب المساعد من الاخوان (رقم: 17 ص: 165).
(4) الباب السابق نفسه.
(1/71)
--------------------------------------------------------------------------------
متفرغات بشهادة ابن حزم نفسه، وإنما كان فيهن الطبيبة والحجامة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والعاملة في الغزل والنسيج (1) ؛ ولكن من الواضح أيضاً أن هذه الفئة من المهن تختلف اختلافاً أصيلاً في أكثرها عن مهن الرجال، وهي في مجموعها مهن لخدمة النساء أنفسهن، محافظة على الحجاب الغليظ، كما أنها مداخل إلى ترسيخ الوساطة بين العشاق.
ومن السهل أن يقال بعد ذلك إن جمال المرأة - على مستوى التكوين الطبيعي والقدرة على التحمل - جمال هش لا يعمر طويلاً، وأنها إذا ابتذلت في الخدمة سارع جمالها إلى الزوال؛ أما حسن الرجل فإنه أثبت، وبرهان ذلك أنه يتعرض للهجير ولفح الرياح، فلا يذوي بسرعة (2) .
فإذا تجاوزنا التكوين الطبيعي إلى رصد التصرفات المتصلة بالعواطف والشهوات وجدنا الجنسين سواء - في رأي ابن حزم - من حيث قدرتهما على قمع الشهوة أو الانقياد لها، فكل رجل تعرض له امرأة بالحب وتثابر على ذلك واقع ولابد في حبائل الشيطان، وكل امرأة دعاها رجل بمثل ذلك مستجيبة ما من ذلك بد (3) . وكذلك هما في الصلاح سواء، والصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، والصالح هو الذي يتجنب المغريات (لاحظ الفرق هنا بين من يحتاج إلى من يضبطه ومن يستطيع أن يستعمل إرادته في ضبط نفسه) فإذا أهملت المرأة وطمح الرجل ببصره لم يعد للصلاح وجود (4) . وكل من المرأة والرجل يحب " الإعلان الذاتي " والتزين والتعريض ليكسب ود الآخر، فإذا شعرت المرأة بأن رجلاً يسمع حسها أو يراها " أحدثت حركة فاضلة كانت عنها
__________
(1) الباب 11 (باب السفير: 142).
(2) باب السلو (رقم: 27: 142).
(3) باب قبح المعصية (رقم: 29: ص 269).
(4) الباب نفسه: 270.
(1/72)
--------------------------------------------------------------------------------
بمعزل " وحورت في حركاتها وكلامها لتقع موقعاً من نفسه، وكذلك الرجل أيضاً، فأما إذا تراءيا فهما سواء في حب إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزاح، إلا أن المرأة أقدر من الرجل على التحيل لاستجلاب الهوى وإيصال محبتها إلى قلبه (1) . كما أنها أنفذ بصراً في استشعار أدنى ميل نحوها (2) . وإذا كان الرجل يقدم على الاغتصاب دون تفكير في العواقب، أو يقبل التديث حين تضمحل الغيرة، فإن المرأة عنيفة تقدم على القتل إذا أحست أن محبوبها مشترك الهوى، وليس في الطوق أية إشارة إلى رجل قتل امرأة لأنها خانته، وغاية ما حدث لأحدهم عندما خانته محبوبته انه وجد لذلك وجداً شديداً (3) . فأما الموت وفاء للمحبوب، فيبدو أن الرجل والمرأة فيه سواء، وكذلك الخروج فيه إلى حد الاختلاط والجنون.