آفات طالب العلم (1)
سارة بنت محمد حسن
إنَّ الحمد لله نحمَده تعالى ونستعينُه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهْدِ اللهُ تعالى فلا مضلَّ له، ومَن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه.
وبعد:
الجِدُّ في السَّير إلى الله لا شكَّ أنَّه يحتاج إلى زاد، وإنَّ من أفضل الزَّاد الذي يقلُّ فيه الفساد على طول المكث: العِلْم الصَّحيح المبنيّ على الكتاب والسنَّة، الذي يحثُّ حاملَه على العمل ويطرق في قلبِه بِمطارق الرَّجاء والحقّ والأمل، وينفض عنْه شوائب الإحْباط والكسل، ويَحول بينه وبين القسوة وطول الأمد.
فإذا بدأ السَّائِر على الدَّرب في جَمع هذا الزَّاد، لا شكَّ أنَّه يواجه العقبات وتعتريه الآفات، فوجب عليه تنقية الحِمل ممَّا علق به، حتَّى إذا حان الموعد وبدأ الرَّحيل، وجد ما حمل في أنقى صورةٍ وأبْهى سريرة فسرَّ به وسعد.
ولا شكَّ أنَّه تكلَّم في هذا الباب من ذاك الفنِّ مَن هو أجدر وأتْقى فأجاد ووفى، ولكن رغبتُ في أن نصيب سهمًا وأُدلي بدلوٍ فأنزع مع النَّازعين تارةً، وأنهل ممَّا نزعوا تارةً أخرى.
لكنَّني لن أخوض فيما خاضوا غمارَه حتَّى استوْفَوا، فإنَّ من آفات الطَّلب - ولا شكَّ - أمورًا لن أذكُرَها؛ ولكن أذكر بعض المسائل التي كثُر فيها اللَّغط واشتهر، فغُمِّي على الحق فيها غمَّة، وتبدَّى الحق للبعض وخفي عن الأكثر، فلا يلومنَّ أحدٌ ترك مسائل هامَّة ومباحث مهمَّة؛ فليس ذاك لقلَّة الشَّأن فيها، ولكنَّها لاستفاضة العلم عنْها.
أحلام اليقظة:
أوَّل آفات الطلب التي تعوق وتعرْقِل الفهم السَّليم والجمْع السديد للمعلومات هي أحلام اليقظة، كيف وأحلام اليقظة هي الَّتي منها ينبت الزَّرع ويجد الجد؟!
أحلام اليقظة سلاح ذو حدَّين، ويجب أوَّلاً أن نحدِّد معنَى هذا المصطلح.
فقد تُطْلق على التَّفكير في المستقبل، وهذا لا يتعدَّى وقتًا قليلاً يتمُّ بعده على الفور تحديدُ النقاط وخطط الانطلاق، وهذا من علوِّ الهمَّة وهو مطلوب، لكنْ هناك نوع من أحلام اليقظة الَّذي يعيش فيه الإنسان فيعوِّض نفسه إحباط الظُّروف الخارجيَّة، فإذا لم يفهم مسألة هرب من المواجهة بحلم طويل عن المجْد والشهرة الذي ينتظره وعن مدْح الآخرين له ..إلخ.
وإذا شرع في القراءة ووجد صعوبةً في المتابعة، ظلَّ يحلم ويحلم بأنَّه أنهى هذا الكتاب وشرع في ذاك، ثمَّ عرج على هذا وأنْهى كذا وكذا، فتمرُّ السَّاعات وهو جالس أمام الكتاب، بل في أوَّل صفحات الكتاب ولم يتحرَّك قيد أنْملة.
فالعمل ليس بالأماني والأحلام؛ بل هو بالجِدِّ والتَّعب وحسن التَّوكُّل على الله تعالى، والاستعانة به سبحانه.
وأبرز مثال على هذا من الحكايات الشَّعبيَّة المنتشرة، والَّتي تُساق بأكثر من صورة، منها سياق بائعة اللَّبن الَّتي ذهبتْ لتبيع اللَّبن في السوق، فظلَّت تحلم بأنَّها باعتْه واشترت كذا فباعته، واشترت شيئًا أكبر، وهكذا حتَّى صارت غنيَّة جدًّا جدًّا، فقفزتْ من السَّعادة فوقع الإناء وانسكب اللبن، فلا هي باعتْه ولا هي اشترت! فهذه أماني لا تفيد؛ بل تضرُّ، وعلى العاقل الاحتراز منها.
إذًا؛ يجب السَّيطرة على حديث النَّفس بحيث لا يعوق التقدُّم في سبيل الطَّلب، فما كان من هذه الخواطر نافعًا كالتَّفكير في حلِّ مسألة أو في قياسٍ أو في فهْم نصٍّ، وكان يرافق البحث والقراءة والاطِّلاع والسَّماع - فهذا تفكير سليم، والخواطر المتعلِّقة بالنيَّة والندم على ما فات وقصر فيه، والتَّطلُّع إلى الزيادة في الطلب وتنظيم الوقت ... إلخ، إذا كان ممَّا يَزيد الهمة والعزم، فهو المطلوب، وإن كان ممَّا يؤدِّي إلى ضياع الوقت في التَّفكير والإحباط وفتور العزائم، فهو من الشَّيطان.
فقد روي عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((الكيِّس مَن دان نفسه، وعمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني))؛ ضعيف الجامع، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فهو صحيح المعنى، وموافق لما ورد في قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123]، وفي قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأَدْنَى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا} [الأعراف: 169]، فهذا الخلْف الطَّالح أخذ ما عرض له من الدَّناءات وتمنَّى على الله السَّلامة، فكان حظّهم من الكتاب الحمْل والميراث دون العلم والعمَل.
والسَّيطرة على حديث النَّفس تكون أوَّلاً بعدم التَّمادي في الوساوس، ثم بتنشيط النفس والبدن بالوضوء أو الصَّلاة، أو اختيار نوع من العلوم يجذب الانتباه، ثمَّ باختيار الأوقات التي تنشط فيها الروح للعمل والجدّ، وترك الأوقات التي تشتدُّ فيها الرغبة في النوم، وعند الإملال نروِّح عن النَّفس بكتب قصص الأوَّلين مثلاً، أو السيرة أو كتيبات الرقائق، كذلك ينبغي مراعاة إشباع النفس وقضاء حوائجها الضَّرورية، كذلك عند اشتِداد الوساوس لا مانع من الاستِعانة بالأقران في المذاكرة والنقاش المثمر المفيد.
ولا ننسى الذِّكْر والاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشَّيطان وكيده، والدعاء عامَّة.
والله المستعان.