ومن الأدلة على أن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم على عمد توصل إلى الهلاك ولو كانت في أمر غير واجب ما ثبت في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل يأكل بشماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك، فقال لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فما رفعها إلى فيه. اهـ. وأكثر العلماء يقولون أن الأكل باليمين من المستحبات لا من الفرائض، ومعلوم أن المستحب في علم الأصول ما في فعله ثواب وليس في تركه عقاب، فلماذا عاقب الله سبحانه وتعالى رجلا رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعينه ونال شرف الأكل معه بهذا العقاب الشديد وهو شلل يده بسبب مخالفته أمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وسواء أكان الأكل باليمين فرضا كما هو الظاهر أو مستحبا كما يقول أكثر الفقهاء، فإن المخالفة فيه على عمد من الكبائر التي توجب غضب الله وعقابه كما رأينا.
ومن الأدلة على أنه فرض ما صرحت به الأحاديث الأخرى التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالأكل باليمين ففيها "فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة الشيطان من الفرائض.
عود إلى ما نقله القاضي عياض رحمه الله
وقال: "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون" وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما بينهم} إلى قوله تسليما، أي ينقادوا لحكمك، يقال سلم واستسلم وأسلم القياد إذا انقاد.
أيها القراء الأعزاء لا ينبغي لنا أن نمر بهذه الآية الكريمة التي احتج بها هذا الإمام العظيم مرور الكرام باللغو، بل يجب علينا أن نقف بها وقفة المحب على آثار الحبيب، فأذكر الآية بتمامها، لأن أكثر القراء في هذا الزمان ـ من سوء الحظ ـ لا يحفظون القرآن، قال تعالى في سورة النساء (65): {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} "لا" هنا لتوكيد القسم والمقسم عليه، أقسم الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم في خطابه لنبيه الكريم أنه لا يؤمن أحد الإيمان الذي ينجيه من عذاب الله تعالى إلا إذا جعل الحكم في كل نزاع يقع بينه وبين غيره للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا علم حكم الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك النزاع يتلقاه بالقبول والرضا والتسليم، والانقياد والطاعة والتعظيم والاغتباط والسرور، ولو كان فيه ذهاب روحه أو فقدان ماله أو فراق أحب الناس إليه من أهل وعشيرة ووطن وأحبة.
أما إذا علم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة المتنازع فيها كسدل اليدين في الصلاة المتقدم الذكر، ودعاء الاستفتاح ورفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول والجهر بالتأمين في الجهرية، والتسليمة الثانية والجلوس على القدم في التشهد الأول وما يشبه ذلك من المسائل التي يخالف فيها كثير من الناس بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير ولم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بل رده وغضب على من دعاه إليه وعتا عليه عتوا كبيرا، فإن هذا ليس بصادق في ادعائه محبة النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين اتباعه ما بين الثرى والثريا، لأنه وجد في نفسه حرجا مما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم لأمره تسليما، وقال تعالى في سورة النساء أيضا (59) : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أمر الله المؤمنين أن يردوا كل نزاع يقع بينهم أو يقع بينهم وبين غيرهم إلى الله والرسول. قال العلماء: الر إلى الله رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو رد إليه نفسه عليه الصلاة والسلام، والرد إلى سنته بعد وفاته, وتأمل قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} يعني تحكيم كتاب الله ورسوله خير للمؤمنين في عاجلهم وآجلهم وخلافه شر لهم في العاجل والآجل.
ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} إلى آخر الآية، وفي هذا الكلام الرباني فوائد جليلة:
الأولى: أن كل من رضي بالتحاكم إلى شرع غير الكتاب والسنة إيمانه غير صحيح لأن (زعم) مطية الكذب، قال تعالى في سورة التغابن: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7] وقال الشافعي رحمه الله: كل زعم في كتاب الله فهو كذب أو باطل، ففيه نفي الإيمان عنهم.
الثانية: قال العلماء: الطواغيت كثيرة ورؤساؤهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن حكم بغير ما أنزل الله كما تدل عليه الآية، ومن دعا الناس إلى عبادته أو عبادة غيره من المخلوقين، والكاهن الذي يدعي علم الغيب ويخبر الناس بالمغيبات، والساحر.
الثالثة: يجب على المؤمن أن يكفر بهذه الطواغيت الخمسة وبسائر الطواغيت، لأن الإيمان بها لا يجتمع مع الإيمان بالله ورسوله، كما قال تعالى في هذه الآية {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، وقال تعالى في سورة البقرة (256) : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال علماء القلوب: لا يصح الإيمان بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت لأن القلب ما دام وسخا متنجسا بالشرك بالطواغيت لا يمكن أن يستقر فيه الإيمان كالإناء الوسخ المتنجس إذا وضعت فيه طعاما طيبا خبث ذلك الطعام ولم ينتفع به، ويقولون التحلية قبل التخلية، وكذلك التوحيد لا يجتمع مع الشرك، فلو عبد الإنسان ربه وخالقه الذي يستحق العبادة 24 ساعة وأشرك به دقيقة واحدة بطلت عبادته. قال تعالى في سورة الزمر(65-66) : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الصغائر والكبائر فكيف بالشرك؟ ولكن الله خاطبه بذلك تحذيرا من الشرك به ولبيان أنه لا تنفع مع الشرك طاعة وإن كثرت.