عن أبي بردة قال: لما حضر أبا موسى الوفاة قال: يا بَنِيَّ اذكروا صاحب
الرغيف.
قال: كان رجل يتعبد في صومعة -أراه قال: سبعين سنة- لا ينزل إلا
في يوم أحد. قال: فنزل في يوم أحد، قال: فشبَّه الشيطان في عينه امرأة،
فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، قال: ثم كُشف عن الرجل غطاؤه، فخرج
تائباً، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد، فآواه الليل إلى دكان عليه اثنا
عشر مسكيناً، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم.
وكان ثمَّ راهب يبعث إليهم كل ليلة أرغفة، فيعطي كل إنسان رغيفاً، فجاء
صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفاً، ومرَّ على ذلك الذي خرج تائباً، فظن
أنه مسكين، فأعطاه رغيفاً، فقال المتروك لصاحب الرغيف: مالك لم تعطني
رغيفاً، ما كان إليّ عنه غنى؟ فقال: أتراني أمسكته عنك؟ سل هل أعطيت أحدا
منكم رغيفين؟
قالوا: لا.
قال : تراني أمسكته عنك؟ والله لا أعطيك الليلة شيئاً، فعمد التائب إلى
الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك.
فأصبح التائب ميتاً، فوزنت السبعون سنة بالسبع ليالي فلم تزن، فوزن
الرغيف بالسبع ليالي فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بَنِيَّ اذكروا صاحب
الرغيف.
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (35353) بإسناد رجاله ثقات.
وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه، أخرجه ابن أبي شيبة
(9906و35352)، والبيهقي في «الشعب» (3488) بإسناد رجاله ثقات.
فالأثر ثابت إن شاء الله.
وإليك بعض فوائدها وبيان جملة من مقاصدها:
1- أهمية القصص الحق في التربية الربانية والثبات على الحق، وأنها من جند
الله أنزلها في كتابه الكريم واستعملها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم
في تثبيت المؤمنين على الطاعات وعدم القنوط من رحمة رب العالمين، ولذلك
ذكر بها أبو موسى بنيه وهو في سياق الموت.
2- لا ينبغي للعبد أن يغتر بعمله ولا يأمن مكر الله، فهذا الرجل عبد الله
سبعين سنة ومع ذلك تعرض لفتنة الشهوات؛ فالحي لا تؤمن عليه الفتنة.
3- شدة خطورة فتنة النساء على الرجال، فأعظم فتنة على الرجال هي النساء:
«فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة في بني إسرائيل كانت في
النساء».
وهذا واضح في سقوط هذا العابد في فتنة النساء بعد ما شبه الشيطان في عينه
تلك المرأة.
4- المعصية لها حجاب يحول بين القلب ونور الله ولها غطاء يغطي على العقل،
ولذلك وصفت الليالي التي قضاها الرجل في المعصية بالغطاء.
5- المتقون إذا وقعوا في معصية واقترفوا ذنباً تداركتهم رحمة الله فكشف
عنهم الغطاء: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
ولذلك ورد في القصة «ثم كشف عن الرجل غطاؤه».
6- من تمام التوبة أن يتبع العبد المخطئ السيئات الحسنات، فإن الحسنات
يذهبهن السيئات، ولذلك كان الرجل التائب يصلي ويسجد.
7- من تصدق بصدقة يبتغي بها وجه الله قبلت منه، وإن وقعت في يد غير محتاج
لها، فصاحب الرغيف أعطى الرجل التائب وهو يظنه مسكيناً وهو ليس كذلك.
ويدل على ذلك جملة أحاديث، منها قصة الرجل الذي تصدق على الزانية والغني.
8- لا تحقرن من المعروف شيئاً؛ فإنك لا تعلم أي خير ينفعك ويقيك عذاب يوم
عظيم وتأمل كيف وزن الرغيف الذي تصدق به التائب بالسبع الليالي التي عصى
الله فيها؛ فرجح الرغيف مع أن السبع الليالي رجحت سبعين سنة طاعة.
9- لا ينبغي أن يقنط من رحمة الله، فهذا العبد وقع في المعصية ثم خرج
تائباً ثم أطاع فصلى وسجد ثم تصدق فختم له على طاعة فلم يقنط من رحمة
الله.
10- فيها تحقيق دقيق لقول الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا
بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:
88-89].
11- وتصدق قليلاً وأجر كثيراً ففي ذلك تحقيق قوله تعالى: {لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[يونس: 26].
12- هذا العبد الذي عبد الله سبعين سنة ثم عصى الله سبع ليالي ثم خرج
تائباً صدق الله في توبته فصدقه الله فمات تائباً وغفر له.
13- وهذه الأحاديث التي تضمنت هذه القصص فيها حض على الخير وترغيب في
الصدقة ومحاربة شح النفس وليس طريقاً للذين يحبون الشهوات يقدمون بسببها
على الكبائر والموبقات مغترين برحمة الله فمن الذي يضمن حسن الخاتمة
ويأمن سوء العاقبة.
للاستماع للخطبة اضغط على الرابط:
http://www.islam-future.com/mktba/voices.php?action=show&id=127 __________________