:
بعثت (دعوة الحق) مندوبها إلى الفندق الملكي، ليهنئ باسمها الدكتور تقي الدين الهلالي بسلامة الوصول إلى أرض الوطن بعد غيبة طالت خمسا وثلاثين سنة، وليبلغه متمنيات أسرة المجلة لسيادته بالمقام الطيب والصحة الكاملة.
وقد كتب مندوب المجلة بعد هذه المقابلة ما يلي:
دخلت على الدكتور تقي الدين الهلالي غرفته بالفندق الملكي، فإذا أنا أمام شخص، متواضع في سمته وحديثه وحركاته، بسيط في مظهره، يبدأك بالسلام، ويرحب بك ترحيبا يجعلك تحس من أول وهلة أن بينكما سابق معرفة، ويحملك على أن تطرح التكلف، وتفتح قلبك كله لهذا الرجل الذي يتحدث إليك بقلبه قبل أن يتحدث إليك بلسانه. إنه الدكتور تقي الدين الهلالي، العالم الجليل، والإنسان المتواضع، والقلب الكبير.
الطالب تقي الدين الهلالي:
كان الطالب تقي الدين الهلالي في السادسة والعشرين من عمره عندما غادر المغرب إلى مصر سنة 1922 وكانت غايته من الرجلة أن يطلب العلم، وعلم الحديث على الخصوص، وقصد الأزهر، ولكنه لم يجد بغيته فيه، فانقطع عنه، وتوثقت صله بالشيخ رشيد رضا وتلامذته، وفي المجالس الخاصة للشيخ رشيد رضا تفتق ذهن الطالب المغربي، وبان فضله ورغبته في العلم، وحرصه على التحصيل مهما كلفه ذلك من جهد أو تضحية أو مغامرة، كما أن المناقشات الحادة التي كانت تجري في مجالس الشيخ رشيد رضا كانت سببا في نضجه الفكري، وتحوله عن التقليد إلى استعمال الفكر وطلب الأدلة العقلية، وعن التقديس المبالغ فيه للعلماء الأعلام والتسليم بكل ما سرد عنهم، إلى البحث الاستقلالي والترجيح، والاعمتاد على الأدلة الأصولية والرجوع إلى الكتاب والسنة. ومع ذلك فلا تزال في النفس بقية، ولا يزال الطالب الذي خرج من المغرب في طلب علم الحديث، يبحث عنه فلا يجد ما يشفي غلته منه.
همة تصحبها حماقة:
وأخيرا قيل للطالب المغربي، إذا كنت جادا في طلب علم الحديث فعليك بالهند، نعم الهند، فهناك فقط تستطيع أن تجد بقية الأعلام من رجال الحديث. وبدأ الطالب المغربي استشارته من أجل تنفيذ المغامرة، وذكر يوما عزمه على السفر إلى الهند بحضور الشيخ محمد حمزة أجد تلامذة الشيخ رشيد رضا، فقال له كلمة لا يزال يذكرها إلى اليوم: "هذه همة تصحبها حماقة".
وكان معنى الحماقة هنا، أن يفكر طالب فقير لا يجد عونا من أحد، في السفر إلى الهند، في وقت لم يكن يستطيع فيه التفكير في سفر بعيد كهذا إلا من كان يتوفر على ثروة طائلة أو على الأقل على نصيب كبير من المال.
ومع ذلك فقد أصبحت هذه الحماقة أمرا واقعا، وسافر تقي الدين إلى الهند حيث مكث خمسة عشر شهرا، تتلمذ خلالها لأعلام رجال الحديث كالشيخ عبد الرحمن المباركفوري شارح الترمذي، وقد ذكر الشيخ الهندي تلميذه المغربي في آخر الجزء الرابع من كتابه.
الأستاذ تقي الدين:
في طريق العودة من الهند، مر تقي الدين الهلالي بالبصرة حيث قابل الشيخ محمد أمين الشنقيطي، وكان هذا رفيقا للشيخ أبي شعيب الدكالي في مكة. وفي البصرة اتخذ الشيخ تقي الدين أسرة لأول مرة، وأسست له مدرسة كان يدرس فيها العربية وعلوم الدين.
وفي هذه الأثناء كان عبد العزيز بن سعود قد استولى على الحجاز، وبتوصية من الشيخ رشيد رضا سافر تقي الدين إلى مكة، حيث حل ضيفا على عبد العزيز ابن سعود أربعة أشهر، ثم عين مراقبا للمدرسين في المسجد النبوي، ومدرسا في نفس الوقت، وبعد سنتين انتقل إلى المعهد السعودي أستاذا للعربية والتفسير والحديث والتوحيد على طريقة أهل الحديث، لا على طريقة أهل الكلام، على حد تعبير الأستاذ نفسه.
في الهند مرة أخرى:
لم يطب المقام للأستاذ تقي الدين كثيرا في الحجاز، فغادرها إلى الهند مرة أخرى، وكان ذلك بدعوة من (ندوة العلماء) في الهند استدعته للتدريس في كليتها، ولا يزال الدكتور تقي الدين يذكر حتى الآن بعض تلامذته في كلية ندوة العلماء، أن منهم الأستاذ مسعود عالم الندوي مؤلف كتاب الضياء، وعلي أبو الحسن الندوي، والأستاذ ناظم الندوي مدير جامعة (بهاون بول) في باكستان.