الشيخ محمد بن عثمين
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه، أرسله الله - تعالى- بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، لقد كان الناس يرتقبون شهر رمضان، يقولون: بقي عليه شهر أو شهران، فمن الناس من أدركه ومن الناس من مات قبل إدراكه، ومن الناس من أدرك أوله ولم يدرك آخره، ومن الناس من أدركه هذا العام ولا يدركه في الأعوام السابقة، هذا هو الواقع، ولقد جاء شهر رمضان ثم خلفناه وراء ظهورنا وهكذا كل مستقبل يرتقبه المرء ثم يمر به ويخلفه وراءه حتى يأتيه الموت. أيها الناس، لقد حل بنا شهر رمضان ضيفاً كريماً فأودعناه ما شاء الله من الأعمال التي نرجو الله - تعالى - أن يتقبلها منا ثم فارقنا هذا الشهر المبارك شاهداً لنا أو علينا بما أودعناه من الأعمال، ولقد فرح قومٌ بفراقه؛ لأنهم تخلصوا منه؛ تخلصوا من الصيام الذي يشق عليهم والأعمال التي كانت ثقيلة عليهم، وفرح قومٌ آخرون بتمامه على وجه آخر؛ لأنهم تخلصوا به من الذنوب والآثام بما قاموا فيه من عمل صالح استحقوا به وعد الله بالمغفرة: "فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(1)، "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(2)، وإن الفرق بين الفرحين لعظيم، إن علامة الفرحين بفراقه أن يعاودوا المعاصي بعده، فيتهاونوا بالواجبات، ويتجرؤوا على المحرمات، وتظهر أثار ذلك في المجتمعات، فَيَقِلُّ المصلون في المساجد، وينقصون نقصاً ملحوظاً، ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. أيها الإخوة المسلمون، لا تظنوا أنه إذا انقضى شهر رمضان فقد انقطعت أيام العمل، لا، إن العمل لا ينقضي إلا بالموت؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99] ويقول جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] فلئن انقضى شهر الصيام وهو موسم عمل فإن زمن العمل باقٍ لا ينقطع، والأعمال الصالحة باقية ولله الحمد، لا تزال مشروعة على مدار السنة، فالصيام مشروع على وجه التطوع في غير رمضان، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه بستة من شوال كان كصيام الدهر"(3) ولقد سن رسول - الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صيام الاثنين والخميس وقال: "إن الأعمال تعرض فيهما على الله فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"(4) و أوصى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثة من أصحابه أبا هريرة، وأبا ذر، وأبو الدرداء -رضي الله عنهم- أن يصموا ثلاثة أيام من كل شهر وقال: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله"(5) وحث صلى الله عليه وعلى آله وسلم على العمل الصالح في عشر ذي الحجة ومنه الصيام، وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان لا يدع صيامها"(6) وقال صلى الله عليه وسلم في صوم يوم عرفة: "يكفر سنتين ماضية ومستقبلة"(7) يعني: لغير الحاج، أما الحاج فلا يصوم بعرفة وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"(8) وقال في صوم اليوم العاشر منه: "يكفر سنة ماضية"(9) وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصوم في شهر تعني: تطوعاً ما كان يصوم في شعبان"(10) كان يصوموه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله، هكذا جاءت السنة بمشروعية الصيام على مدار السنة، وهذا من فضل الله ورحمته ولولا أن الله شرع الصيام لكان الصيام بدعة، وكل بدعة ضلالة، ولكن الله شرعه لعباده ليزدادوا إيماناً، وأعمالاً صالحةً، وثواباً جزيلاً، أما القيام فإنه لا ينتهي - أيضاً - برمضان فإنه لا يزال مشروعاً وفي كل ليلة من ليالي السنة "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه"(11) وحث النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على قيام الليل ورغب فيه وقال: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل"(12) وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له"(13) هكذا ينزل الرب -عز وجل- إلى السماء الدنيا بالوجه اللائق به من غير تمثيل ولا تكليف، لأن الله - تعالى- أعلم بنفسه ولم يخبر بشيءٍ عن كيفية صفاته ونهانا أن نضرب له الأمثال يقول جل وعلا إذا نزل في آخر الليل يقول: "من يدعوني فاستجيب له" يعني: أي إنسان يدعوني فأنا أستجيب له "من يسألني فأعطيه" أي:من يسألني أي مسألة كانت فيعطه إلا إن النصوص جاءت باستثناء ما كان فيه الإثم فإن الله - تعالى - لا يقبل دعاء من هو آثم أي:من سأل إثماً، ويقول:"من يستغفرني فأغفر له" أي: من يطلب مني أن أغفر له ذنوبه فإني أغفر له، هكذا يعرض الجواد الكريم فضله وجوده يقول هذا القول، فمن كان منكم حازماً فلينتهز الفرصة. أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وبادروا الأعمار بالأعمال، وحققوا الأقوال بالأفعال، فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله، والإنسان في عمره يكون على ثلاثة وجوه، الوجه الأول: أن يمضيه في طاعة الله فهذا هو الكاسب لقول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1-3] الوجه الثاني: أن يمضيه في معصية الله إما بترك الواجبات أو بفعل المحرمات وهذا هو الخاسر الآثم، فعليه أن يقلع عما هو عليه، وأن يتوب إلى الله عز وجل، وأن ينتهز الفرصة قبل فوات الأوان، أما الوجه الثالث: فالذي لا يمضيه في طاعة الله ولا في معصية الله ولكن في اللغو واللهو الذي لا فائدة منه وهذا بلا شك قد خسر لكنه ليس بآثم إلا أن يترتب على ذلك محظور شرعي. أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، واعملوا لآخرتكم قبل أن تنتقلوا، ولقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح لكم أبوابها، ودعاكم لدخولها، "فالصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان"(14) "من أقامها كانت له نوراً ونجاةً يوم القيامة"(15) شرعها الله لكم خمس صلوات في كل يوم وليلة في أوقات متفرقة؛ حتى لا يلحقكم التعب ؛وحتى لا تبتعدوا عن الوقوف بين يدي الله عز وجل، وأكملها الله تعالى بالرواتب التابعة لها؛ لأن الإنسان ربما - بل وهو الكثير يحصل في عمله خلل فكملت بالرواتب - ربما يحصل في عمله خلل فكملها الله تعالى بالرواتب التابعة لها "وهي اثنتي عشر ركعة أربع قبل الظهر بسلامين وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر من صلاهن بني الله له بيت في الجنة"(16) وآكد هذه الرواتب راتبة الفجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان يداوم عليها حضراً وسفراً وقال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"(17) "ويثني تخفيفهما"(18) مع الطمأنينة، وأن يقرأ في الركعة الأولى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] بعد الفاتحة وفي الثانية ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] بعد الفاتحة أو يقرأ قوله تعالى: ﴿قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ [البقرة: 136] في سورة البقرة في الركعة الأولى وأن يقرأ في الثانية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: 64] في سورة آل عمران يقرأ هذا مرة وهذا مرة؛ ليحافظ على السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا كان غير حافظ للقرآن وداوم على ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فلا حرج؛ لأن الكل سنة ولله الحمد، والوتر سنة مؤكدة سنه الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بقوله وفعله وقال: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة"(19) وذلك أفضل، ووقته من صلاة العشاء ولو مجموعة إلى المغرب جمع تقديم إلى طلوع الفجر وهو سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان تركه حتى قال بعض العلماء: إن الوتر واجب يأثم الإنسان بتركه وقال الإمام أحمد رحمه الله: الوتر من تركه رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة(م1) "وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشر ركعة"(20) كل ركعتين بسلام "ووقته من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر"(21) ومن فاته في الليل قضاه في النهار ولكن يقضيه شفعاً ولا يقضيه وتراً هكذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشر ركعة"(22)، فإذا كان من عادتك أن توتر بثلاث ولكنك لم توتر فإنك تقضيها في النهار أربع، وإذا كان من عادتك أن توتر بخمس فإنك تقضيها ستة، وإذا كان من عادتك أن توتر بسبع فإنك تقضيها ثمانية، وإذا كان من عادتك أن توتر بتسع فإنك تقضيها عشرة، وإذا كان من عادتك أن توتر بإحدى عشر فإنك تقضيها اثنتي عشر كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أيها الإخوة المسلمون، إن الإنسان إذا انصرف من صلاته فإن الله - تعالى - أمره أن يذكر الله - تعالى - قائماً وقاعداً وعلى جنب، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء: 103] وذلك أن الإنسان في صلاته متصلاً بربه يناجيه ويدعوه ويعظمه بالقول وبالفعل، فإذا انصرف من الصلاة انصرف من هذه الصلة لكن الله أمر بالذكر؛ حتى لا يكون الإنسان بعيداً من ربه وكان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إذا سلَّم استغفرَ ثلاثاً وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"(23)، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة لا الله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىءٍ قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"(24) ولقد شرع الله لعباده إذا أرادوا الصلاة أن يتطهروا؛ حتى يطهروا ظاهرهم ويكون ذلك عنواناً على طهارة الباطن، فمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين ومن المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"(25)، أما النفقات، والزكوات، والصدقات، والمصروفات على الأهل والأولاد حتى على نفس الإنسان "فإنه ما من مؤمن ينفق نفقة يبتغي بها وجه الله إلا أثيب عليها"(26) "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها"(27)، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر"(28) والساعي عليهم: هو الذي يسعى بطلب رزقهم ويقوم بحاجتهم ويربيهم التربية الصحيحة، والعائلة: الصغار، والضعفاء: الذين لا يستطيعون القيام بأنفسهم هم من المساكين فالسعي عليهم كالجهاد في سبيل الله. أيها المسلمون، إن طرق الخير كثيرة فأين السالكون؟ وإن أبوابها لمفتوحة فأين الداخلون؟ وإن الحق لواضح لا يزيغ عنه إلا الهالكون، فخذوا عبادة الله من كل طاعة بنصيب فإن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77] اللهم إنا نسألك أن ترزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ورزقا طيباً واسعاً، وأن ترزقنا اغتنام الأوقات بعمارتها بالأعمال الصالحات، إنك على كل شيءٍ قدير، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.