الرد على القاعدة العصرية القائلة : لا نجعل خلافنا في غيرنا سبب للخلاف بيننا
الحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم وبعد : فقد انتشر في الآونة الأخيرة قواعد عصرية فيها نفس غريب على منهج أهل العلم وبالأخص أهل الجرح والتعديل يدعي أصحابها أنهم عرفوا الحق فيها وسلكوه وأنهم حققوا فيه مالم يحققه غيرهم وتلك القاعدة العصرية تقول : لانجعل خلافنا في غيرنا سبب للخلاف بيننا . فأقول وبالله التوفيق :
الرد على هذه القاعدة من عدة أوجه منها :
1- أنها تلتقي من وجه مع قاعدة التعاون والمعذرة .
2- ومنها أن تلك القاعدة – إن عددناها قاعدة على منهج صاحبها – ليست على إطلاقها فالخلاف –المدعى – بيننا في غيرنا على نوعين :
- النوع الأول خلاف معتبر وهو أن يكون الكلام في غيرنا لم يتبين تماما ولم يأت عنه مايستدعي جرحه فعلا فحينها يمكن أن يقال هذا القول .
- النوع الثاني : خلاف غير معتبر –وهو الواقع –وهو أن يتضح تماما حال المخالف ويفسر فيدعي بعض الناس بعض الإدعاءات ومنها :
أ- أنه لم يتبين له جرح ذلك المخالف أو بمعنى آخر لم يصله شيء فيه مع أنه قد وصل غيره وانتشر بين الناس قاله وعرفت حاله .
ب- أو يدعي أنه لم يفسر جرحه مع أن الواقع أن كثيرا من أهل العلم قد فسروا جرح ذلك المخالف .
ج- أو يدعي أنه لم يقنع بذلك الجرح ويجعل نفسه ندا لأهل العلم العالمين بهذا الباب مع وضوح الجرح .
سبب عدم قبول الجرح راجع لأسباب منها :
1- الجهل بعلم الجرح والتعديل .
2- رد الجرح والتعديل في هذا العصر وتخصيصه بالرواة فقط .
3- تقديم تحسين الظن مطلقا وأن الكل دعاة والكل يخطيء ويصيب وهذا مايسمى اليوم بتمييع الجرح والتعديل .
4- وقد يرجع لأمور دنيوية محضة .
5- وقد يرجع الرد لأمور عاطفية محضة كصحبة للمخالف ونحوها .
4-هذه القاعدة العصرية فيها رد لإجماع قائم وهو بقاء باب الجرح والتعديل مادام هناك حق وباطل أو قل سنة وبدعة وقد حكاه غير واحد منهم ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير :
(الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على إمام المتقين، وخاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:فهذه كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير – فإنهما يشتركان في أن كلاً منهما: ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس والله الموفق للصواب. اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص.فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه. وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه. ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً.ولهذا نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمة السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمَّاً ولا نقصاً اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة.
وسبب ذلك أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم )اهـ كلامه .
وقال شيخنا ابن باز : ( مع أن النقد من أهل العلم وتجريح من يجب جرحه من باب النصح للأمة ، والتحذير من بدعته أو انحرافه أمر متعين كما فعل علماء الإسلام سابقا ولاحقا ) : الرسائل المتبادلة :297
ثم إن هذا الأمر وهو التحذير من أهل الأهواء وجرحهم والحط عليهم مستثنى من الغيبة المحرمة مع أمور أخرى استثناها العلماء وقد نظمها بعضهم فقال :
القـدح ليس بغيـبة في ستـة متـظـلم ومعرف ومحـذر ومجـاهر فسقاً ومستفت ومن طلب إلاعانة في إزالـة منكر .
5-هذه القاعدة فيها تليين لباب الجرح والتعديل بدعاوي عدة منها :
1-أن في جرح الناس شدة لاتنبغي ولم تعرف عن أهل العلم
الثقات –زعموا- .
2-وبدعوى الإعتدال والوسطية وهذا يستدعي قبول الكل مادام
سنيا .
3-وبدعوى التنفير فالجرح ينفر العامة عن سماع الدروس وعن
السلفية .
4- وبدعوى العصرنة التي تنفي الشدة وأن هذا الوقت يجب أن تتكاتف فيه الجهود على أعداء الله من الكفار وغيرهم .
5- وبدعوى الكثرة فالأكثرية اليوم على ترك باب الجرح والتعديل
لأنه ينفر الناس
6- ثم قد اختلف حال الناس اليوم فقد بعدوا عن الدين ولذا هم
بحاجة للتأليف أكثر من التنفير وهذا الجرح فيه تنفير لعمومهم ،
مماايجعل العوام مصيدة سهلة لأهل البدع ونحن أولى بهم من
غيرنا .
7- وبدعوى الدخول في وسائل الإعلام المختلفة ومنها الفضائيات
وهي لاتقبل المتشددين زعموا .
من استدلالات أصحاب تلك القاعدة :
الإستدلال الأول : قال أصحاب هذا المسلك الردي :
أن العلماء الأكابر الثقات لم يعرف عنهم هذا المسلك كما عرف الآن وعلى هذا القول فهو نفس غريب على الدعوة كما يسميه أصحابه وباختصار فهو مسلك مبتدع ولابد من القضاء عليه بتأصيلات عصرية تبين الحقائق في تلك المسالك .
والرد على استدلالهم هذا باختصار من ثلاث أوجه :
1- العلماء في الكلام عن جرح الرواة بين مستكثر ومستقل كما كان في العهد الأول وكما حكاه الذهبي عنهم .
2- ثم الأكابر لم ينكروه بل هم يسألون من رأوه متخصصا في الباب
ويرجعون لقوله .
3-ثم إن لهؤلاء الأكابر جهودا كثيرة في الباب وقوية لامدفع لها بحال .
الإستدلال الثاني : قال أصحاب هذا المسلك :
أن في كلام العلماء الأكابر ماينفي هذا الباب بإطلاق بل وبعضهم إدعى أنه مخصوص بعلم الرواة وأنه قد انتهى وقته وليس إلا تخطئة للقول لا للقائل
والرد عليه مختصرا من أربعة أوجه :
الوجه الأول : أن العلماء الأكابر الثقات قد تكلموا في أناس وجرحوهم .
الوجه الثاني : أن العلماء الأكابر قد بينوا أهمية الجرح والتعديل في عصرنا وأنه أمر متعين ولابد منه ونصوصهم في الباب موثقة ولم يضطربوا في هذا الباب كأصحاب تلك المسالك والحمد لله .
الوجه الثالث : أن أهل العلم الأكابر ردوا الزيادة المفرطة في هذا الباب وردوا على من تكلم فيه بغير علم وإنما بهوى .
الوجه الرابع : ولو صح افتراضا أن عالما رد هذا الباب فغيره من العلماء قالوا به فالرجوع إلى ماقال هؤلاء هو المتعين وهنا نقول : العالم يخطيء ويصيب ويعلم ويجهل ونحن نتبع ولانقلد . ولكن ننبه على أن الجرح المفسر مقدم على المعدل فلو فسر أحد الجرح وكان واضحا فيجب المصير إليه ولايقال نحن نختلف كما اختلف علماء الجرح في الرواة .
هذا ما أمكن بيانه من شين هذا المسلك العصري الرديء والمنهج الأفيح السيء والردود عليه والله أسأل أن يعيننا وإخواننا على معرفة الحق بدلائله وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم .