والإشكال الثاني : كيف استطاع زيد أن يتعلم هذه اللغة في نصف شهر؟ والجواب عن هذا الإشكال حسبما يظهر لي أن زيدا لم يتعلم اللغة السريانية في نصف شهر وإنما تعلم كتابتها وقراءتها لأن هذه اللغات الثلاث: العربية والعبرانية والسريانية متقاربة جدا في جملها ومفرداتها حتى في هذا الزمان الذي ضعفت فيه اللغة العربية. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى التي طبعت أخيرا : "إن اللغة العبرانية قريبة جدا من اللغة العربية حتى إن بعض مسلمة أهل الكتاب كان يقرأ عليّ التوراة فأفهم ما يقرأه دون أن أحتاج إلى ترجمة". فإذا كان هذا في شيخ الإسلام ابن تيمية فما بالك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإلى يومنا هذا لو أن شخصا تكلم باللغة العبرانية الفصحى القديمة وتمهل في كلامه لفهم أكثر ما يقول أو كثير منه ودونك جملة تسهل عليك فهم ما تقدم (إنيِ قُوري بسّفّرْ هَزِي) معناه أنا أقرأ في هذا الكتاب، جملة أخرى (أني لُومِذ هلْ لاشون ها عَرْبيت ) معناه: أنا أتعلم اللسان العربي. فموسى أرسله الله إلى بني إسرائيل بلغتهم العبرانية وأنزل عليه التوراة بها. وعيسى أرسله الله إلى بني إسرائيل باللغة السريانية التي هي لسانهم في زمانه وأنزل عليه الإنجيل بها وهذا قول أكثر المؤرخين وهو صحيح.
وبهذه المناسبة أذكر أني قرأت في كتاب الأبريز المنسوب إلى الشيخ عبد العزيز الدباغ ومؤلفه هو أحمد بن المبارك السجلماسي وكلاهما من المغرب كلاما يتعلق باللغة السريانية أريد أن أتحف القراء بذكره بمناسبة ذكر اللغة السريانية وهو من المضحكات المبكيات كما قال الشاعر:
أمور يضحـك السفهـاء مـنـها ويـبكي من عـواقبـها اللـبيب
فمن ذلك أنه زعم أن شيخه عبد العزيز الدباغ أخبره بالأمور التالية:
1- قال المؤلف المذكور في كتاب الإبريز صفحة 217: "وسمعته رضي الله عنه يقول من تأمل كلام الصبيان الصغار وجد السريانية كثيرا في كلامهم فكان آدم عليه السلام يحدث أولاده في الصغر ويسكتهم بها ويسمي لهم أنواع المآكل والمشارب بها فنشأوا عليها وعلموها أولادهم وهلم جرا" ثم مضى إلى أن قال "وقد سبق أن لغة الأرواح هي السريانية". ثم قال :"ومن أسمائه تعالى لفظة أغ التي ينطق بها الصبي الرضيع وهو اسم يدل على الرفعة والعلو واللطف والحنان فهو بمنزلة من يقول يا علي يا رفيع يا حنان يا لطيف"، قال محمد تقي الدين: أقول في هذا سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كنت نشرت في صحيفة الأخبار التي كانت تصدر في تطوان منذ سبع وعشرين سنة مقالا كذبت فيه ما ادعاه مؤلف كتاب الابريز من أن الحرف الواحد من السريانية يساوي كلمة من اللغات الأخرى كالعربية مثلا وذكرت أربعين كلمة من السريانية وقابلتها بالكلمات العربية فكانت إما مساوية للكلمات العربية في عدد الحروف أو تزيد عليها وبينت أن السريانية والعربية والعبرانية أخوات مشتركات في الضمائر وأغلب القواعد التي يعتمد عليها في تركيب الجمل وأن آلافا من الكلمات مشتركة بين اللغات الثلاث. فتحير في ذلك مقدم التيجانية أحمد الرهوني وأجاب من سأله وأحرجه بأن السريانية التي تتكلم بها الأرواح ويتكلم بها الأولياء في ديوانهم الذي يجتمعون فيه كل يوم قبل طلوع الفجر بغار حراء ليدبروا شئون العالم هي سريانية أخرى خاصة بالأولياء وليست هي السريانية المعروفة التي يتكلم بها السريانيون إلى يومنا هذا, والتي تكلم بها اليهود كما تقدم في أزمنتهم المتأخرة وهذا الجواب في غاية الوقاحة. فالسريانية شعب من الشعوب ولهم لغتهم، كما أن العرب شعب ولهم لغتهم والعبرانيون شعب من الشعوب ولهم لغتهم, فلما خنقته الحجة اخترع سريانية جديدة لم يذكرها أحد من الناس قبله.
أما ما زعمه مؤلف كتاب الابريز أنه نقله عن شيخه من أن اسم الله بالسريانية أغ وأنه من بقايا لغة الروح يجري على لسان الصبيان الرضع فهو من أعظم الكذب والبهتان فإن اسم الله بالسريانية (الاها) هذا عند السريانيين الغربيين وعند السريانيين الشرقيين (ألاهو). والسبب في ذلك أن جميع الأسماء عند السريانيين الغربيين تختم بألف مثل (بيتا) بيت, (ماي) ماء, (شمايا) سماء, (عليما) غلام. وهكذا.. أما السريانيون الشرقيون فإن الأسماء تختم عندهم بواو قبلها ضمة واسمه تعالى باللغة العبرانية (إلوهم) ولا تختلف الشعوب السامية فيما نعلم في اسم الله تعالى إلا فيما رأيت من تغيير الحركات ثم قال:" وإذا أراد الصبي أن يتغوط أعلم أمه وقال ع ع وهو موضوع في السريانية لإخراج خبث ذات الصبي", قال محمد تقي الدين: يا أسفا على العقول التي تصدق مثل هذا الهذيان ومن سوء الحظ أن كثيرا ممن يدعون أو يدعى لهم أنهم علماء في المغرب وفي مصر يصدقون هذا البهتان فنقول لهذا المخبول: إذا كانت السريانية بزعمك لغة الأرواح أي أرواح بني آدم كلهم وأن الصبيان الرضع لقرب عهدهم بعالم الأرواح بقيت على ألسنتهم هذه الكلمة السريانية فما بال صبيان العالم الرضع لا يتكلمون بها في أي شعب من الشعوب إلا في المغرب الأقصى فلعل صبيان المغاربة حفظوا ما نسيه جميع صبيان العالم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "إن مما بقي من كلام النبوة الأولى (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)". على أن حرف العين خاص بالشعوب السامية التي خرجت من جزيرة العرب ولا يوجد عند غيرهم, فالشعوب التي ليس في لغتها عين كالأوروبيين مثلا لا يستطيع الشخص الذي لم يسمع العين ولم يتدرب عليها مدة طويلة لا يستطيع أن ينطق بها أبدا إلاّ إذا خالط شعبا ساميا كالعرب والسريانيين والآشوريين والعبرانيين والقبط والبربر مدة طويلة وقد يخالطهم زمانا طويلا ولا يستطيع أن ينطق بها. والحق أن الكلمات المختصرة التي ينطق بها الصبيان في بعض البلدان إنما تلقنوها من أمهاتهم يضعنها لهم مختصرة ليسهل نطقهم بها في بعض البلدان فيسمون الخبز بابّ، والماء أمبوا، والتمر نينى أو نان, والطفل الصغير الذي هو مثلهم موم, وهنا في المدينة يقلبون الميم نونا فيقولون (نون) وقد جمع بعض المستشرقين لغة صبيان العرب من مثل ما تقدم فاجتمع عنده مائة وخمسون كلمة وهذا كما تقدم من تلقين الآباء والأمهات ولا علاقة له بالسريانية ولا بلغة الأرواح وذكر المؤلف كلمات أخرى من هذا القبيل لا نطيل بذكرها, ومن أراد الاطلاع عليها فلينظرها في الكتاب المذكور.